القوس قصة قصيرة بقلم / عبد الحميد سحبان
يتصايح الصبية بعجوز منحني الظهر، أنهكته صروف الحياة، فصار مقوسا يسير على ثلاث، مستندا إلى عكازه
-” آبَّا الشِّيخْ !!!بٍشْحَال القَوْسْ؟ “.
التفت إليهم قائلا : -“دَابَا يْجِيكُمْ بْلاَ فْلُوسْ، سِيرُوا اللهْ يَنْعِلْكُمْ.
تغامز الصبية وفروا بعيدا، لما لوح الشيخ بعصاه مهددا، ثم تابع سيره نحو ضريح “سيدي عبد الله بن الحاج “، ذلك الضريح العتيق، الذي تطل قبته على شاطئ البحر الأطلنطي، منتصبة بعناد أمام هذا الأوقيانوس المترامي الأطراف. دلف إلى الداخل، ألقى بعض الريالات في صندوق كبير مغطى بكتان أخضر، تجلس إلى جواره عجوز متجعدة الوجه، تحمل في يدها سبحة ذات حبات مختلفة الألوان، ما أن لمحته حتى صاحت به:
-” أنْتَ عَاوِتَّانِي “.
رد عليها وأثر الأسف باد عليه: -” اللهْ ايِرْحَمْنَا”. ثم انزوى في ركن من أركان الضريح، وراح يبتهل بعمق. نهضت من مكانها تقصده، بعد أن اقتنعت أن من واجبها مساعدة هذا البائس الفقير، اقتربت منه، وقالت بنبرة جدية:
-“وَاشْ بَاغِي اتْدَاوَی ؟”،
رد العجوز بلهفة شاب في مقتبل العمر:
-” إِيِّهْ”.
فردت :” غِدَّا آجِي مْعَ الِفجَرْ “.
عجبا، إن الإنسان يتشبت بالحياة ولا فرق في ذلك بين الشباب والشيب، الكل سواسية في التعلق بها، ولو كان ذلك في أواخر العمر، كهذا المسن الذي يعاني من الانحصار، انحصار يسبب له ألما دونه الموت. لقد استعمل كل الأعشاب البرية وكل ما سمعه عن داء الانحباس. زار أكثر من عشرة أضرحة، فلم يفلح كل هذا ، فهل تفلح هذه العجوزة؟ نام ليلة سوداء، لأن ألمه وصل القمة، ظل الليل بكامله يكابد أوجاعه، وما أن انبلج الفجر حتى خرج نحو مقصده. كان الجو باردا، فتكمش القوس الهرم. صار كبرميل يتدحرج ضجرا من ثقله، تحرك نحو الضريح، دق بابه الخارجي بعنف، سمع صوتا يستمهله من الداخل. فتحت له امرأة سوداء مكتنزة في الخمسينيات، استأذنها في الدخول، وجد العجوز جالسة في مكانها المعتاد تحرك السبحة في تؤدة. ارتعشت الشمعة للحركة التي أحدثها عند ولوجه، جلس قبالتها وقسمات وجهه المشقق بفعل السنون تفضح أنينه المنبعث من نفسه المتقطع، سألته:
-“صِلِّيتِ الَفْجَرْ؟
أجابها بأنه على غير وضوء، أشارت إلى حجرة صماء كبيرة، وقالت له:
تيَمّمْ”. بعد أن أكمل صلاته، قالت له من مكانها بصوت عال:
-” خَصِّكْ تِصْبَرْ”.
حرك رأسه قائلا :-” إن الله مع الصابرين”.
أشارت العجوزة إلى السوداء، فهمت منها وجوب إحضار العدة، فعادت بعد برهة بمجمر طيني كبير الحجم يتلظى بشواظه الجهنمي وبقضبان حديدية متفاومة الأحجام والسُّمك. طلبت المرأة من الشيخ التمدد على بطنه وخلع الملابس عن ظهره. وضعت أول قضيب محمى في لهيب المجمر، بعد أن رشت كومة من الملح على الظهر المقوس وهي تردد: –
“بسم الله الرحمن الرحيم… يا شافي يا عافي”.
تكمش العجوز ثم تجرجر عض على طرف قميصه ليكتم صياحه وتأوهه، وبعد أن انتهت من وشمه بالنار سبع مرات متتالية، مدت له کوبا به سائل يميل إلى السواد، لم يشرب أمر منه في حياته. قالت بوثوق:
“دَابَا نْزِلْ الِبْحَرْ، رَاه ْكَايِصْلَحْ لْكَيْ “.
أخرج الشيخ ورقة مالية أنهكها التداول المفرط، امتنعت المرأة عن قبولها، فدسها رغما في يد السوداء، ثم خرج يجرجر آلامه متوجها صوب البحر. تجرد من جلبابه الثقيل. ثم قصد البحر بسرواله الداخلي العريض، فلما لامست رجلاه الماء، اقشعر جسده بردا وأحس بحرارة النار في موضع الكي. جلس على ركبتيه وأخذ يرش الماء المالح عليه من هنا وهناك، وما هي إلا ثوان حتى ارتطمت به موجة هائلة شهق على إثرها، ولما هم بالنهوض سحبته قوة الجر فسقط كاملا فعالجته موجة أخرى جذبته إلى الداخل. أخذ يغالب المياه المتقاذفة بقوى خائرة استسلم بعدها للانجراف، نزل إلى تحت، ارتخى ثم سار يكمل جولته داخل مياه البحر الدافئة، انفتح انحساره، فصب ما كان بداخله دفعة واحدة.
سر الحياة، أن الألم يأتينا وهي ما تزال فينا، لكن ما أن تغادرنا بالرغم عنا، يصبح كل شيء على ما يرام وفي التمام. بعد عدة أيام، خرجت جثة العجوز وقد اختفى القوس إلى الأبد.
التعليقات مغلقة.