موسوعه أدبية شاملة

teen spreads her legs for jock.https://fapfapfaphub.com

الكيس الأسود بقلم أحمد فؤاد الهادي

338

الكيس الأسود
بقلم أحمد فؤاد الهادي

كأن سكينا قد شق بطن المدينة من الشرق إلى الغرب، فأخرج أمعاءها و فضلاتها و عفنها، فكان هذا الشارع العريض الذي امتلأ نهره بكل صنوف الفوضى، و امتدت المحلات و المقاهي بطول جانبيه محتلة رصيفاه، بل امتد اعتداؤها ليقطتع أجزاء يسيرة من نهر الطريق، فبدت المحلات كأوكار غائرة، كنت أدخن آخر سجائري و أنا أواسي نفسي و ألهيها عن كل ماحولي. فشلت في شراء سجائر من هذا الشارع الكئيب، الكل يرد على طلبي بازدراء و استنكار: “مافيش سجاير…حرام”. فررت إلى داخلي، و تملكني إحساس بإنني لست واحدا، أنا كثير جدا، كلهم ضاقوا بفرط التسيب و ضياع الحقوق، قررت أن أقف صفوفا صفوفا، و لتمتد صفوفي بطول هذا الشارع، ثم لتندفع في تماسك و قوة مزيحة أمامها كل هذه الموبقات، أفقت، تلفت يمينا و يسارا، فراغ يحيطني، ألوذ بثيابي و أمضي صاغرا متحسرا، مازلت أسأل عن السجائر، و مازالت الإجابة: حرام. هذا محل لبيع الدواجن، قد امتد ليحتل الرصيف بالكامل بأقفاص يعرض فيها بضاعته، صبي ممسك بخرطوم يندفع منه الماء على أرض المحل ليغسلها من مخلفات بضاعته و دمائها، أبو زينب – صاحب المحل – شاب ثلاثيني هادئ، شغلت بملامحه و حركاته و تحركاته بين داخل المحل و خارجه، كثيرا مايرد على هاتفه الجوال و يملي شخصا آخر داخل المحل، طلبات “الدليفرئ” كثيرة، هو لايعرف القراءة و لا الكتابة، و لكنه يجيد “الدليفري”. قررت أن أنتزع نفسي من هذا الشارع، و أن ألجأ إلى أبي زينب فأشتري دجاجة أو اثنتين، الرجل ذو أدب جم، يتحدث همسا، أحضر لي كرسيا من المقهى المجاور، أصر أن أشرب شايا، ثم عاد ليتابع عمله. تناهى إلى سمعي صوته و هو يحكي لرفاقه قصته، رغم أنه لم يتذوق طعم الحرية، إلا أنه كان تواقا إليها بالفطرة، فمنذ أن دبت فيه الحياة في هذا الظلام الحالك داخل تلك البيضة التي كانت هي كل عالمه آنذاك، و هو يشم رائحة الحرية و لكنه لا يراها، فلما لاحت له هالة خافتة من ضؤ في أحد أركانها، نقرها بمنقاره الغض فأحدث فيها شرخا ضعيفا، فعاود النقر مرات و مرات حتى صار الشرخ شروخا متقاطعة، و سرعان مانهار جزء يسير من جدار سجنه، نفذ منه ضؤ الدنيا ليصافح عينيه لأول مرة، و ظن أنه قد ظفر بحريته، أو أنه على وشك الظفر بها. تسارعت الدماء في عروقه، و دب النشاط في أوصاله، فاستجمع قواه و أخذ يدفع برجليه و جناحيه مهشما جدار سجنه الرقيق، ثم زاحفا فوق ركامه، ليفاجأ بأنه ليس وحيدا، و أن عشرات مثله قد عانوا ماعانى، و فازوا بما فاز. تلاصقت الأجساد الصغيرة حتى بدت كجسد واحد نتأت منه عشرات الرؤوس التي تتلفت في عشوائية و كأنها جميعا تبحث عن أب لها أو أم، يكتكتون فيملأون سكون المكان بضجيجهم الضعيف و كأنه نابع من زغبهم، أما صاحبنا، فقد علا صوته على الجميع، فصمتوا، فإذا ما كتكت كتكتوا بعده، مظاهرة هو قائدها، كان أكثر منهم ثباتا و قوة، يطل عليهم من عل، فله عنق طويل عار من الزغب حتى الرأس، عندما اشتد عوده أطلق عليه عمال المزرعة لقب “الشركسي”، ديك شركسي، هكذا جرى العرف في الريف: أن يخلعوا هذه الكنية على كل ديك ذي عنق طويل عار من الريش. ها هو الشركسي قابع في القفص الحديدي أمام المحل، رأيت الشغف و الاهتمام في عيون الدجاجات و الديوك و هم يتابعون الشركسي و هو يأتي بحركات انفعالية معبرة عما يحكي من أحداث عاشها خلال الشهرين الماضيين، كل عمره، و كلما حدثهم عن الحرية التي كان ينتظرها، بدا كمن يجهش بالبكاء، فكم من مرة اعتقد أن الحرية وشيكة كلما فتح أحدهم باب محبسه، و كلما نقل من مكان لآخر، ثم لايلبث أن يكتشف أنه إنما ينقل من سجن إلى سجن، و هاهو قد استقر هنا، في هذا السجن الذي يبدو أنه الأخير. سيدة سمراء ممتلئة، تسحب ابنتها العائدة من مدرستها، تمر بالكاد من بين الأقفاص بعرض الرصيف، تدفع ركبتي بحقيبة يدها وهي في طريقها إلى داخل المحل، تصيح:

  • فرختين كل واحدة كيلو و نص يامحمد.
    ثم تنتحي بابنتها في ركن بين الجدار و الأقفاص، لم أتلصص و لم أتنصت، و لكن كلماتها كانت تعبر من بين الأقفاص حتى تحتك بمسامعي:
  • يبقى تروحي تعملي واجب الانجليزي على ما أجهز الغدا … تتغدي و تروحي درس العلوم .. و تعملي حسابك ما تتأخريش عشان درس العربي .. و بالليل أذاكر معاكي الرياضة .. عشان الدرس بكره الساعة تسعة الصبح.
    عند هذا الحد، قفز عصفور في رأسي، نقر في أرجاء الجمجمة، المشكلة ليست الشارع فقط، مرت دقائق حتى كَلَّ العصفور و سكن، هدأت حرارة الجمجمة، عدت إلى الشارع و أبي زينب و الشركسي.
    فتاة في ريعان شبابها، ملائكية الوجه بلا “مكياج”، هادئة الملامح، كل شئ فيها يوحي بفرط أدبها، ملابسها متواضعة، و لكنها نظيفة و مهندمة، لم تلتفت إلى معروضات أبي زينب، وقفت صامتة منزوية، أحسست أنها تريد أن تقول شيئا بحيث لايسمعها الآخرون، أدرت رأسي نحو الشارع، اقترب منها أبو زينب، همست إليه:
  • نص كيلو رجول ياعم محمد .. و امي هاتفوت تحاسبك بالليل.
    صدمتني بطلبها الغريب، الشركسي يندفع بعصبية، يمد رقبته الطويلة من بين أسياخ القفص، نظر إلى الفتاة التي كانت تطالع أرض المحل و كأنها تحصي بلاطاتها، صاح الشركسي في وقت لاتصيح فيه الديوك، سحب رأسه متراجعا خلف القضبان، تجمعت حوله بعض الدجاجات مندهشات لصياحه، التفتت إليه إحداهن و عيناها تتساءلان عما ألم به، فغر منقاره بالدهشة:
  • تصوري .. هذه المسكينة عايزة رجول!
  • أنا خايفة تاخد رجول “باتعة” اللي دبحها من شوية .. دي كان عندها هشاشة عظام.
  • أو يديها رجول “إش إش” … كان عنده خشونة في المفاصل.
  • المسكينة لو صابها المرض مش ها تلاقي حد يعالجها.
    تنامى القلق في قلب الشركسي، فعاد و أخرج رأسه تحملها رقبته الطويلة، رمى نظره إلى حيث يعبئ أبو زينب الرجول للفتاه، كاد الشركسي أن يسقط من طوله، فتلك رجل “إش إش”، نعم هي، فمازالت تحتفظ بأثر هذا الجرح الذي أصيبت به في أحد مشاجراته مع ديوك المزرعة، لم يجد سبيلا لمنع الكارثة سوى معاودة الصياح، التفتت إليه كل الدجاجات والديوك واشرأبت أعناقهم في كل الأقفاص، و لكنه كرر الصياح، فالتفت إليه أبو زينب متعجبا، نادى صبيه:
  • هات الشركسي المزعج ده خلينا نخلص منه.
    بعد دقائق، كان الشركسي ممددا في كيس أسود وقد فقد رأسه وكل ريشه.

أحمد فؤاد الهادي – مصر

التعليقات مغلقة.