الله والإله …د.أحمد دبيان
الله والإله …د.أحمد دبيان
منذ سنوات ليست بالبعيدة أتممت مناسك الحج وقبلها اعتمرت .
ربما سيندهش الكثيرون حين اتحدث فأقول ان فكرة الإله التى كنت أحملها داخلى كمطلق يسع الدنيا والكون والوجود والنجوم اصطدمت بالتجسد الذى حدث حين أخذت أقوم بالمناسك والطواف والسعى .
بل وأثار الحجر الأسود حين استلمته كل هواجس الوثنية داخل رأسى .
تذكرت وقتها الخليفة عمر حين روى
أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: “إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ”.
طردت هذه الهواجس وقتها واستحضرت الصورة الضبابية المطلقة للإله التى احتفظت بها فى عقلى فتشبثت بها وأكملت المناسك .
للحجر الأسود حكايا وروايات ، وهو ليس كتلة واحدة كما يعتقد البعض وانما يتكون من مجموعة من أحجار صغيرة مُلصقة ببعضها حوالي إثنى عشر قطعة صغيرة بحجم التمرات، وهو يعني أن الحجر عبارة عن حصوات صغيرة وليس حجرًا واحدًا ملصقة بالشمع وبأطر من الفضة .
تعرض الحجر الأسود للسرقة والتدمير على مدار التاريخ .
كانت اشهر حوادث السرقة هى ما حدثت زمن القرامطة فى عهد الخلافة العباسية .
كان الظلم والتباين الإجتماعى الذى رسخت له الدولة الأموية وورثته الخلافة العباسية مع تبادل الأدوار بين العرب والفرس والترك فادحاً ممزقاً أى أمل فى تحقيق المساواة والعدل الإجتماعى الذى كان روح الرسالة المحمدية .
قامت ثورات الزنج والقرامطة وكعادة تأريخ السلطة كان التوثيق الرسمى لهما تحت مسميات الفتنة ، ومن فتنة الزنج الى فتنة القرامطة الى هوجة عرابى وهوجة سعد انتهاءاً بانقلاب ٢٣ يوليو ، ظلت السلطة المتسيدة بتأريخاتها المهيمنة المضادة تمطر اللعنات على ثورات حقيقية قامت ، محركاتها رفض الظلم والغبن والطبقية والتمايز .
استغل القرامطة ضعف الدولة العباسية وتفككها لدويلات، وانشغالها بحرب مع ثورة الزنوج، فسيطروا على بعض مناطق الجزيرة العربية، وتواجدوا عسكريا ً في طريق الحجاج، فألغى أهل الشام والعراق الحج لشدة الرعب منهم، وقاموا بالهجوم على البصرة وقاموا بمجزرة كبرى استمرت 17 يوما، واستباحوا الأموال واغتصبوا النساء كما ورد فى تأريخات السلطة ثم هاجموا أطراف الشام، وكانوا كلما مروا بقرية سلبوا الأموال وقتلوا الرجال واغتصبوا النساء، ثم يحرقون القرية بما فيها ومن فيها أطفال وعجائز.
مما سجله المؤرخون عن ثورة القرامطة والتى تتشابه مع ثورة الزنج كونها ثورة اشتراكية الجوهر ما جاء فى ابن كثير
ان حمدان قرمط أمر أن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
ووما ورد فى ارجاعه الى مكة بعد نيف وعشرين عاماً
ما جاء في «تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد» لأبي بكر الجراعي أنه قيل:
«إنهم باعوه [أي القرامطة] من الخليفة المقتدر بثلاثين ألف دينار. ولما أرادوا تسليمه، أشهدوا عليهم ألا تسلّموا الحجر الأسود، وقاله لهم بعد الشهادة: يا من لا عقل لهم، من علم منكم أن هذا هو الحجر الأسود ولعلنا أحضرنا حجرا أسودا من هذه البرية عوضة، فسكت الناس، وكان فيهم عبد الله بن عكيم المحدث، فقال لنا في الحجر الأسود علامة، فإن كانت موجودة : فهو هو، وإن كانت معدومة، فليس هو، ثم رفع حديثا غريبا أن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه، فأحضر القرمطي طستا فيه ماء ووضع الحجر فيه فطفى على الماء، ثم أوقدت عليه النار فلم يحس بها فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله وقال: أشهد أنه الحجر الأسود، فتعجب القرمطي من ذلك، وقال: هذا دين مضبوط بالنقل وأرسل الحجر إلى مكة.
من الاخبار التى وردت وبعيداً عن التأريخات السلطوية المشيطنة وتواتر اخبار السلطة انهم فد حاولوا تحويل الحج الى القطيف . نجد ان القرامطة كانوا يمتلكون منهجاً عقلياً فريداً وأنهم بالفعل حاولوا مخاطبة العقل الغرائزى الدينى باقتلاع الحجر الأسود وتبيان انه بالفعل مجرد حجر وان الدين كجوهر يحقق العدالة الإجتماعية والمساواة أكبر من اختزاله فى حجر أو طقوس .
يحدثنا المفكّر والفيلسوف حسين مروّة، في كتابه “النزعات المادية والفلسفية في الحضارة الإسلامية”، عن تاريخ القرامطة: “إن كانت ثورة الزنج هي ثورة العبيد، فإنّ الثورة القرمطية هي ثورة الفلاحين بلا منازع، ويكاد يجمِع المؤرخون على أنّ بداية هذه الحركة كانت عام 264هـ، إبان ثورة الزنج بالبصرة؛ إذ قدم في هذا العام إلى منطقة الكوفة، أحد دعاة الإسماعيلية، وهو “حسين الأهوازي”، وكان معظم سكان هذه المنطقة من النبط، الذين عرفوا بانشغالهم في الفلاحة منذ القديم، وكانوا آنذاك يعانون من تردي أوضاعهم بسبب كثرة الضرائب المفروضة عليهم، واستغلال كبار الملاكين من الإقطاعيين لهم، ولذلك كانوا مستعدين للوقوف مع من يخلصهم من هذا الوضع، وفي الكوفة التقى حسين الأهوازي بفلاح، وهو حمدان قرمط، فآمن بمذهبه، وإليه يعود الفضل في إرساء أسس الحركة القرمطية، وقد انتشرت حركة القرامطة بسرعة غريبة في أوساط الفلاحين أولاً، ثمّ امتدت لتشمل أهل الحرف والمعدمين من سكان المدن في منطقة الكوفة والبصرة في العراق، وفي منطقة البحرين وبعض مناطق بلاد الشام؛ بل وبعض نواحي اليمن في جنوب الجزيرة”.
ويؤكد مروة، أنّه “ما من قائد لأية ثورة أو انتفاضة نهضت في وجه الخلافة العباسية، تاريخياً، رفع شعارات قومية صريحة في المناطق غير العربية؛ بل الذي نعرفه أنّ قيادات هذه الثورات والانتفاضات كانت ترفع شعارات، أو تعلن برامج تتصل بمطالب هذه الجماهير (اقتصادية – اجتماعية)، كي تنجذب هذه الجماهير، وأحياناً كانت ترفعها بواسطة أفكار ذات إطار ديني أو فلسفي، لا يحجب المضمون الواقعي لهذه المطالب”.
بينما انشغل العباسيون بحرب الزنج، استغل حمدان قرمط الموقف السياسي المشتعل، وحاول نشر دعوته التي تسعى لبناء مجتمع ذي علاقات إنتاج مغايرة للمجتمع الذي يعرفه المسلمون، فأفكاره التي قاربت اشتراكية كارل ماركس، وسبقتها بقرون، استطاعت التوصل لآليات تمكّن المجتمع من الفكاك من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة في العصر العباسي، ليتدرج في طرحه، مطالباً أتباعه بالتنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة.
اقتضت الحركة أن يتبرع كلّ من أتباعها، سواء كان رجلاً أو امرأة، بدينار، وقد استجاب الأتباع عن طيب خاطر؛ حيث كان يوظف ما يجمعه منهم في الإنفاق على المصالح العامة، خاصة على الفقراء والمحتاجين، ليتطور الأمر، بجمع كلّ الثروات، وإعادة توزيعها طبقاً لمبدأ “من كلّ حسب طاقته لكلّ حسب حاجته”.
وقد رصد المستشرق الهولندي “ميكال يان دي خويه”، في كتابه “القرامطة نشأتهم وعلاقتهم بالفاطميين”، تطور الحركة القرمطية بعيداً عن تعاطيات فقه السلطة المتوارث .
وممّا جاء في كتابه: “أقام الدعاة في كلّ قرية رجلاً مختاراً من ثقاتها، يكلّف بجمع كلّ ما يملكه أهل القرية من ماشية وحُلي ومتاع وما إليها، في المقابل كان على هذا المدبّر أن يوفّر الكساء للعراة، وينفق على سائرهم ما يكفيهم، حتى لم يبقَ فقير واحد من المستجيبين للدعوة.
كانت ثورة القرامطة ثورة عقلية تحاول تحقيق جوهر الدين فى العدل الإجتماعى والتكافلية واشتراكية المطعم والثروة لتحطيم التمركزات الطبقية وفقه التمايز ليتم شيطنتها كعادة التأريخ السلطوى المتسيد وتشويه حراكها تحت مزاعم الشيوعية الجنسية وتحويل الحج عن البيت الحرام .
التعليقات مغلقة.