المجرمون..د.محمد محي الدين
ألقت بنفسها في بحر يموج بالظلمات، لاتدري ماذا تفعل في الذي ابتليت به من حَمل لم تحسب له حساب، فبعد قصة حب جارفة مع زميل لها ميسور الحال في كلية الحقوق بجامعة الإسكندربة وبعد وعود زائفة ملأ بها أذنيها بزواج سيتم بمجرد التخرج، لكنه حنث بوعوده وألقى بها في الهواء عندما أخبرته بحملها
قررت الهروب من بيت أبيها الذي ضم أيام سعادتها وهنائها وها هي الآن بمجدافها الضعيف وبين جنباتها مخلوق أضعف ليس له ذنب في خطيئة تمت تحت ستار مهترئ
أتنتحر وتخلِّص نفسها وماتحمله من مصير بائس؟
لكن الفضيحة ستكون أكبر وعقاب الآخرة سيتضاعف
تذكرت إحدى المعارف التي تسكن وحيدة بمنطقة عين شمس بالقاهرة فحملت قدميها وركبت القطار الذاهب من الإسكندربة إلى القاهرة وكلها أمل أن تجدها على قيد الحياة
اهتدت للمكان بشق الأنفس، وكان لقاءً فاتراً ، فقد تذكرتها بصعوبة ، وبعد بُرهة من هذا اللقاء أوضحت للسيدة سبب مجيئها المفاجئ، وكانت كلماتها تخرج بالكاد وجسمها يرتجف ، فهدأتها السيدة وقالت لها : (ربنا يستر عليكي…انتي وصلتي لبر الأمان…من ستر عبدا ستره الله يوم القيامة)
عادت لها الروح بعد أن ذهبت بعيدا لعالم الظلمات، وهكذا استتب الأمر لها مؤقتا حتى تضع جنينها المسكين، مع رجائها لها ألا تبلغ أحدا من أهلها إذا سألوا عنها
دارت الأيام بآلامها حتى قذفت مولودها، ودخلت مرحلة أخرى بعد أن صارت أماً لابن بلا أب
وهكذا قانون الدنيا.. مع الأفراح تأتي الأتراح ..السيدة الفاضلة التي خيمت عليها بالحنان وأسدلت أسبال الستر عليها قضت نحبها بعد عام
تسربت الأحزان ورفرفت الأشجان عليها وبعدها نفذت الأموال التي تركتها لها السيدة التي احتضنتها، فلابد لها من مصدر دخل، ولكن..
كيف؟ وهي تعيش تحت( نقاب) لتختفي عن أعين الناس كما أنها لم تكمل تعليمها في كلية الحقوق
وأين ستترك ابنها وأسئلة كثيرة تؤدي لسراب موحش
زيّن لها الشيطان طريق أول مهنة في التاريخ، وغاصت نفسها الأمّأرة بالسوء في وحل التفكير بالأمر، وهَمّت لتفعل ، وأثناء ذلك أتاها برهان من ربها وهو ابنها، بكى صارخاً بدموع حارة لم تعتدها منه، احتضنته بشدة قائلة
: لا لن أفعل يابني رغم أنك لا تفهم ما سافعل …يكفي ما حدث بالماضي القريب
سارت بلا هدف بالشوارع حاملةً ابنها وعندما غلبها التعب جلست على أحد أرصفة الطريق، وإذا بأحد المارة يمد يده إليها ببعض النقود، أرادت أن ترفض وفشلت ، حينها لمعت برأسها فكرة ظنت أنها المخرج لما تعانيه من شظف العيش دون أن يكشف شخصيتها أحد
تلبس كعادتها النقاب وتجر بيدها ابنها، ثم تذهب للحديقة الكبيرة على ضفاف النيل وهناك تمارس الشحاذة
رغم العذابات النفسية التي تنتابها وهي بهذه الحالة إلا أن القدر لم يرد لها الراحة، بعد أشهر من مداومتها على ذلك أتت دورية من الشرطة وألقت القبض على كل الشحاذين بالحديقة
تم عمل محضر لهم جميعا ثم جرى تحويلهم للنيابة العامة
وهناك تم عرضهم على وكيل النائب العام
عندما دخلت ومازالت تلبس نقابها وبيدها ابنها
تفحصها وكيل النيابة ثم سألها
: ابنك والا خاطفاه؟
: (ابني حضرتك)
: (واضح من طريقة كلامك انك متعلمة …ايه اللي خلاكي تشحتي وكمان بتستغلي ابنك)
: (انت…انت يابيه )
ابتسم باستخفاف
: (ايه اللي بتقوليه دا؟)
وهم العسكري بضربها وهنا سقط النقاب من على وجهها
مفاجأة مدوية لوكيل النيابة فصرخ : (إنتي) ولكنه سرعان ما تماسك
عندها انبرت عندما تعرفا على بعضهما البعض وحدثت المواجهة المنتظرة منذ سنوات
: (انت بتسألني ليه باخد اللي في جيوب الناس بداعي المسكنة وأنت اللي سلبت أعز ما أملك بداعي الحب وباسألك عملت معاي كدة ليه
انت بتعتبرني مجرمة في حق المجتمع وأنا بعتبرك مجرم في حقي
إنت بتحاسبني و مين هيحاسبك )
ساد الارتباك على كل من بغرفة التحقيق
أكملت (كلنا مجرمون …لكن كل مجرم وطريقته)
وهنا أمر وكيل النيابة
بإيداعها مستشفى الأمراض النفسية لفحص قواها العقلية
التعليقات مغلقة.