المسرح الشعري في الأدب المعاصر وأحدث تجربة في الشعر المسرحي للشاعرة المتألقة القديرة دكتورة ريهان القمري في مولودها الجديد “أوليفيا”… بقلم د.وجيهة السطل
المسرح الشعري في الأدب المعاصر وأحدث تجربة في الشعر المسرحي للشاعرة المتألقةالقديرة دكتورة ريهان القمري في مولودها الجديد “أوليفيا”
بقلم د.وجيهة السطل
الشعر المسرحي فن قديم من فنون الأدب، ظهر لدى اليونان والرومان، ثم انحسر في نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا.
وهو فن يتبنى الشعر لغةً في الحوار المسرحي.. عموديًا أو غير عمودي. ولأجله وُجد المسرح الشعري، الذي يعدّ من أهم الفنون التواجهية مع الجمهور وأصعبها. يتمازج فيه الشعر الغنائي مع مواصفات خاصة ببناء النص المسرحي ، بحيث يتضمن مجموعة من العناصر، تمثل خصائص المسرح الشعري من لغة وأسلوب وشخصيات وحوار.
ولم يعرف هذا اللون الشعري إلا في العصر الحديث ،
ونجم عن إضافة هندسة جديدة، من فن المسرح،في هيكل غنائي للشعر العربي يعتمد الموسيقية والغنائية، في رسم العواطف العميقة المتدفقة في الحوار. وكانت المحاولة الأولى للشعر المسرحي في الأدب العربي على يد الشاعر اللبناني خليل اليازجي المتوفَّى عام ١٩٨٩م.
ولم يكتب لها الاستمرار والتمكُّن. ولم تُعط قبلة الحياة إلا على يد أمير الشعراء الشاعر أحمد شوقي، الذي بايعه شعراء العرب كافة أميرًا للشعراء عام 1927م
ويعدّ الرائد الأول لهذا اللون من الإبداع .
ومن مسرحياته الشعرية : مصرع كليوباترا وقمبيز، ومجنون ليلى،وعلي بك الكبير.
وأعجبت هذه الصورة الفنية كثيرًا من الشعراء بعد شوقي ، فتقدم جماعة كبيرة منهم، فقلدوا شوقي في المواضيع والأساليب واتخذوه إماما لهذا الفن .ثم تطور بعد ذلك تطورًا تاما حتى وصل إلى مرحلة النضج والكمال، وحجز له مكانة مرموقة في الأدب العربي في العصر الحديث ، فكانت مسرحيات عزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي.
وفي عالم الجيل المعاصر نجد الشاعر الكبير فاروق جويدة الذي كان رائد عودة الروح للمسرح الشعري من جديد .
فقدم ثلاث مسرحيات عرضت على خشبه المسرح القومي في السبعينات، وحققت نجاحًا كبيرًا في وقتها. وهي: “الوزير العاشق” ، “دماء على أستار الكعبة” ، ومعها مسرحية الخديوي.
وقامت ببطولة المسرحيات الثلاث الفنانة القديرة سميحة أيوب أمام النجوم العظام : عبد الله غيث ويوسف شعبان ومحمود ياسين. وأخرجها على التوالي : فهمى الخولى، الدكتور هانى مطاوع، جلال الشرقاوي وعرضت .
وقدم آخرها مسرحية “الخديوي” عام 1993م وأحدثت جدلا كبيرًا في الوسط السياسي ، فقد كانت تحكي عن سطوة المال والسياسيين، وتحذّر من انفجار الغضب المكبوت داخل الشعب،
فمنعت من العرض مدة ثمانية عشر عامًا،
، حتى عرضتها شبكة تليفزيون الحياة بعد ثورة ٢٥ يناير. عام ٢٠١١م.
وما زال عشاق هذا النوع من المسرح شكلًا ومحتوًى، ينتظرون مسرحية “هولاكو” آخر إبداعات جويدة التي بدأ في كتابتها عام ٢٠٠٣م بعد سقوط بغداد والاحتلال الأمريكي للعراق ، ولكن تسارع الأحداث وتساقط الدول العربية الواحدة وراء الأخرى جعلت كتابتها تستغرق منه زمنًا طويلًا ؛ فأنهاها عام ٢٠١٤م ، ووصفها مبدعها الشاعر فاروق جويده بأنها لا تتحدث عن سقوط بغداد فقط وإنما عن سقوط أمة. وكانوا سيفتتحون بها المسرح القومي بعد خمود مسرحي، وإحياءً لهذا النوع من المسرح الذي يشكل دائما صعوبة فى أدائه وإخراجه وإنتاجه، ولكن وفاة بطلين من أبطال المسرحية تباعًا هما فاروق الفيشاوي ثم عزت العلايلي ثم وفاة المخرج جلال الشرقاوي رحمهم الله جميعا عطّل إخراج المسرحية إلى النور . وما زال الوسط الفني من عشاق المسرح الشعري والأدبي في انتظارها،
وبعد العثرات العجيبة التي مرت بها مسرحية (هولاكو) للشاعر القدير فاروق جويدة ،بعد أن تلجلج الأمر، وأغلق الباب في وجه استكمالها.
كأن الله -تعالى- لم يرد اليُتم لهذا الفن الأدبي الجميل.فأرسل له في السنة نفسها 2018م، شاعرة قوية مبدعة عشقت هذا الفن الأدبي فكانت هذه المسرحية الشعرية الجميلة تعاكس أو تداعبُ خيالها، وتلحّ عليها كي تخرجها إلى النور. وهي الشاعرة القديرة المبدعة دكتورة ريهان القمري. ولكنها كانت مشغولة عنها بأمور أخرى.
ولأن الإبداع يفرض نفسه على المبدع فقد استجابت له، ولكنها اكتفت بأن وزّعتها على فصول ومشاهد ، وأطلقت أسماءً على بعض الشخصيات،ثم تراءى لها من بعدُ تغييرها. وكتبت في كلّ مشهد مجموعة من الأبيات لا تتجاوز العشرة، وخبأتها بعيدًا في مكان أمين.
ودارت الأيام. وانطلق المارد في غزة ؛ فدبّت الروح في المسرحية المختبئة،وعلت أصوات شخوصها وأبطالها، وألحوا على صاحبتها للخروج إلى النور. فما كان منها إلا أن استغرقتها ثانية وعاشت معها أيامًا ولياليَ، خرجت لنا بعدها إلى الساحة الأدبية التي ستُبهرها هذه الدرة الرائعة التي أعطتها اسم (أوليفيا ) ،و يعني : شجرة الزيتون أو أرض الزيتون.
هذا الاسم الذي يحمل في طياته أقداس التاريخ والماضي. ويجعلنا نحدِس بما ستحمله المسرحية من أفكار ومعانٍ وأهدافٍ إنسانية و اجتماعية وسياسية بل وطنية.
ولأنّ الشعر يتغلغل في أعماق النفس البشرية، ويساير خلجاتها وتحليقاتها بعيدًا ؛ فهو أقدر من النثر على تجسيد المشاعر والانفعالات على اختلافها. وعلى التعبير عن فلسفتها بين اندفاع وهدوء، يتجاذبانهما الحكمة والتعقّل، والتهوّر والجنون .
فالشعر ينفذ إلى مناطق خفية في النفس والروح، لا يستطيع النثر الوصول إليها،والتعبير عنها .. واختارت الشاعرة بحر الرمل . وقد جاء في كتاب “الكافي في العروض والقوافي” للخطيب التبريزي، لأن الرمَلَ نوع من الغناء يَخرج من هذا الوزن
وهو فعلًا كذلك فب غنائيته. واختاره أيضا أحمد شوقي في مجنون ليلى . وهو بحر غنائي منساب يلين مع المشاعر حين تلين، ويقف معها متألمًا حين تعصف بها الظروف. ويتسع لاحتواء وتيرة العنف والثورة حين يضيق الشاعر بالأشخاص والأحداث. واختارت القافية المقيدة والضرب المقصور(فاعلان) وقد يصيبه الخبن فيصبح (فعِلان). وجاء الضرب الهمزة الساكنة. ويحمل كل من الضرب والرويّ رموزًا ومعاني وغايات. فالرويُّ وإن كان مقيّدًا، فإن الألف التي كانت تسبق الهمزة الساكنة ، أعطت إيحاء بالتمرّد والانطلاق، والرغبة في الانعتاق حتى لنكاد نسمع صوت التأوه والصراخ في نبات فصول المسرحية ومشاهدها، وبين ممرات عباراتها وأبياتها.
استطاعت الشاعرة المبدعة أن تعرض فصول المسرحية ومشاهدها، بتمكّن واقتدار؛ فقد التحمت بالأحداث، وخاضت لجّة مشاعر الشخصيات، حتى لتُنسي القارئ أنها هي التي تخلق تلك الأبيات. فيظن أن الشخصيات خرجت من هديكور المسرح حقّا تقولها أمامنا بثقة وقوة وصدق.
إبداع في الفكرة، وتمكّن بارع من موسيقى البحر في الوزن والنغمات.وانويع في العلل والزحافت الستحبة، يتناسب مغ وهج العاطقة، واحتدام المواقف. وذكاء في التّدرُّج في عرض المشكلة، ثم فرشٌ متقن لخلفيّة جيدة.
تولّت التعريف بالشخصيات بحيث أصبحنا نتوقع ردود أفعالها قبل أن تمسك بها،وتسجلها لنا في فصول المسرحية ومشاهدها. .ةلا أنسى الإشارة إلى الذكاء في اختيار المد بهمزة ساكنة لإنهاء البيت. لثراء المادة اللغوية فس هذا التوع من الألفاظ، وتجدده بين المشتقات المفرده وجموع التكسير والمصادر لكل مهموز الآخر أو معتل الاخر تتحول علته إلى همزه لتطرّفها بعد مد. فحظيت بثروة لغوية هائلة من الألفاظ التي توافقت مع المغنى والصورة والخيال والأحاسيس.إنما تدلّ على ثراء معجم الشاعرة اللغوي، وثقافتها العميقة.
فكانت المسرحيه بتواترها
مسرحية رائعة،تبوح بالجهد المبذول فيها. فقد اقتحمت بها الشاعرة بنحبةٍ واقتدار عالم المسرح الشعري، فأصبحت فارس الميدان،والمحفّزة لجموع الشعراء كي يحذوا حذوها، ويُحيوا من جديد هذا الفن الأدبي الراقي، الذي لا يقدر عليه إلا مبدع متمكّن من أدواته نغمًا وأفكارًا،ولغةً ،وثروة لفظية غنية بالمعاني…
أهنئ الساحة الأدبية بهذا المولود الذي ولد عملاقًا. وأهنئ ابنتي الغالية الشاعرة الدكتورة ريهان القمري بهذا المولود الجديد الجميل الفريد.وأتمنى لها المزيد من التألّق والعطاءات.
إن هي إلا معادلة راقية، تتطلب فرسانًا حقيقيين ؛ شعر مسرحي يعني : عودة المسرح الشعري.
وفقك الله، ودام لك هذا التألق ،وهذا المنهل العذب المتوهج الذي تنهلين منه. وأسال الله لك التوفيق في كل ما يخطه يراعك من حروف وإبداع .
د.وجيهة السطل
التعليقات مغلقة.