المصير “من يوميات رجل حمار جدا”
د.نهاد حلاوة
في تمام الساعة السادسة وعشرين دقيقة من صباح اليوم دق جرس المنبه الأثري والذى يشبه صوته انذار الحريق ليعلن بداية يومي الجديد.
قفزت من فراشى فزعا بطريقة أدارت رأسى فمن الواجب أن أستيقظ قبل سماع الجرس إذن فقد انهار خط دفاعي الأول أى اننى استغرقت في النوم أكثر مما ينبغي وهذا نادرا ما يحدث ومن هنا جاء حرصى علي النوم مبكرا وخاصة أننى أعيش وحدى ولا يوجد في حياتى مايستوجب السهر ، والنوم هو وسيلتي المتاحة لتلافي الملل.
صحيح أن ميعاد العمل في الثامنة والنصف وان مقر عملي يقبع علي الرصيف المقابل لسكني ولكنى تعودت علي الاستيقاظ مبكرا تجنبا لأى مفاجآت قد تؤخرني عنه منذ خمس وعشرين عاما قضيتها به…ولكن الحذر واجب..
راتبي لا يكاد يكفي احتياجاتي الأساسية فأضطر كثيرا إلي التنازل عن وجبتي الأفطار والعشاء ولكنى احرص بقدر الإمكان علي التمسك بوجبة الغذاء..وبفضل هذه الحمية الإجبارية لا زالت ملابسى القديمة تلائم مقاييس جسدى أما حذائي فقد أصبح عديم اللون والملامح بعد أن رافقني لسنين وأكاد أشعر بأناته كل صباح تستحلفني ان استبدله بآخر جديد ولكن ما باليد حيلة..تلك الأمور المعيشية اليومية لا تزعجني كثيرا فالمهم هو تدبير إيجار الغرفة حتي لا يحتك بي صاحب البيت فهو رجل مستبد دائم الشجار مع السكان ولكى افوت عليه فرصة ايذائى إذ أننى ادفع الإيجار مقدما شاملا الأضافات التي يطلبها من حين لآخر بحجة الصيانة أو بعض الخدمات التي لا اتمتع بمعظمها فقد اعتدت هذه الغرفة التي استأجرها منذ تعييني في المصلحة فعلاوة علي قربها فإنها توفر الهدوء بحكم موقعها منفردة على سطح المنزل مما يتيح لي فضاء ارحب للتأمل في أوقات الفراغ… ربما ادى بي الى التنبؤ بالأحوال الجوية أو تحري اهلة الشهور العربية.
لازلنا في بداية الشهر ولازال الراتب متماسكا أمام الهجوم الضارى للاسعار ولذلك فوجبة الأفطار ممكنة هذا الصباح وهى علي احسن تقدير قطعة من الخبز مع كوب من الشاى بدون حليب وبدون سكر هكذا تعودت نفسي علي الاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه
أغسل وجهى أم لا تلك هى المسألة التي تلح علي منذ فترة وفي كل صباح اؤجل غسل وجهي إلي اليوم التالي…لكن اليوم وبعد تردد طويل مددت يدى لأفتح صنبور المياه والذى كان له الرأى الحاسم في تلك المسألة فالمياه مقطوعة…..اعتدت انقطاع المياه في غرفتي لفترات طويلة..كذلك الكهرباء رغم اننى ادفع الفواتير بأنتظام هل أتحدث مع صاحب المنزل في هذا الأمر أم أن ذلك سيثيره ضدى؟ سأترك الأمر للصدفة سأتحدث معه في ذلك ولا داعي لتعمد ازعاجه..أصبحت الساعة الثامنة خرجت من غرفتي مهرولا…لا أذكر إن كنت قد أحكمت إغلاق باب غرفتي أم لا…عموما محتوياتها لا تستوجب الحرص الزائد… علي أن أعبر الشارع بسرعة لأصل إلي العمل فأتمكن من قضاء حاجتي قبل ميعاد التوقيع في دفتر الحضور والانصراف
في الواقع ليس لي عمل محدد ولا حتي مكتب أو كرسي خاصين بي وبعد التوقيع في دفتر الحضور فإننى حر في قضاء وقتى كيفما وأينما شئت وحتي يحين موعد التوقيع في دفتر الإنصراف…لكنى لست من هؤلاء الذين يتركون الهيئة أثناء مواعيد العمل الرسمية.. فربما احتاجني المدير العام في أمر ما ولم يجدني فيعرف عني عدم الإلتزام و يحرمني من العلاوة التشجيعية التي انتظرتها بفارغ الصبر سنوات و سنوات علها تساهم رأب الصدع الدائم بين الراتب والنفقات طيلة ربع قرن من الوظيفة الحكومية وبرغم الإلتزام والجدية فلم يطلبني حتي الآن أى من مديري العموم الذين تعاقبوا علي إدارة الهيئة ولكن الحذر واجب.
وعليه فإني اقضى يومي في المصلحة متنقلا بين كراسي ومكاتب الزملاء الغائبين ..لبعض الوقت ..وكلما عاد أحدهم انتقلت إلي مكتب غيره.. في البداية كنت أشعر بالحرج مع تعليقات زملائى وانا اتنقل بين مكاتبهم ولكنى اعتدت تعليقاتهم وخاصة بعد أن أصبحوا أكثر تفهما لموقفى .
وصلت أمام البوابة الخارجية للمصلحة وكانت لا تزال مغلقة ربما وصلت مبكرا أكثر من الازم… وقفت أنتظر …أصبحت الساعة الثامنة والنصف ولم يفتح أحد البوابة التى عادة تفتح في تمام الثامنة… اقتربت الساعة من التاسعة واشتدت حرارة الشمس ولم ألحظ تواجد أي موظف غيرى طافت بذهني فكرة أن يكون الموظفين قد اتفقوا على عدم الحضور اليوم وبالتالى سيكون اليوم هو فرصتي لإثبات إلتزامي امام المديرين ولكن حتي المديرون لم يحضروا حتي الآن..اقتربت من بائع الصحف المجاور من باب المصلحة ابتاع منه جريدة استعملها كمظلة تقينى من حرارة الشمس حتي يفتح أحدهما البوابة ناولني الرجل الجريدة دون أن اطلبها منه بالرغم من انها اول مرة في حياتي اشتري جريدة سألته عن ثمنها وناولته إياها فأخذه وهو يضحك بطريقة هستيرية ويقول بعض الكلمات التي ضاعت معالمها بين موجات الضحك المتعاقبة لم اكتراث بما يحدث وألتفت عائدا إلي البوابة فأشار الرجل بيده ان أنتظر ثم تمالك نفسه من الضحك … اليوم الجمعة يا أستاذ والهيئة أجازة…أذهب لتكمل نومك…لينفجر مرة أخرى في نوبة الضحك
أحسست ببعض من الحرج ولكني اعتدت على استيعاب مثل هذه الموافق بسعة صدر يحسدني عليها الجميع أومأت لبائع الجرائد بيدى شاكرا له فضله وأشارت بيدى مودعا..وانا لا أعرف إلي أى إتجاه أسير
تبدوا فكرة العودة إلي البيت واستكمال النوم فكرة غير جذابة فلماذا لا انتهز هذه الفرصة لأداء صلاة الجمعة فمنذ أن عينت في المصلحة وأنا اتكاسل عن أداءصلاة الجمعة نظرا لبعد المسجد عن سكنى كما أن فكرة إستعمال المواصلات تصيبنى بالقلق ولكني سأتشجع اليوم فقد قطعت نصف الطريق إلى المسجد بنزولي الشارع وعلي ان أسرع لأن تقلصات امعائي تنذر بضرورة دخولي المرحاض وإلا سينفجر الموقف وليكن مرحاض المسجد.
اتجهت الى ما اظنه أقرب محطة حافلات ..مر وقت طويل ولم تتوقف أي حافلة عامة وحرارة الجو تتزايد وإلحاح أمعائى يتصاعد فأيقنت الآن أهمية الجريدة التي اشتريتها وللمرة الأولى اتصفح الجريدة :
-قصف عنيف للجنوب بينما القتال مازال محتدما بين الفصائل المتناحرة
-زلزال عنيف يضرب الشرق و يؤثر بعنف على الوسط
-افتتاح نفق مظلم في احتفال مهيب
-الشاعر كثيف الشعر يفوز بجائزة دولية في تصفيف الشعر
-انهيار برصة الأوراق المالية و محاولة انقاذ الأفيال من تحت الأنقاض.
-الكمبيوتر يهزم بطل العالم في الملاكمة في الثانية الأولى من الجولة الأولى
-الهزيمة الخامسة على التوالي للمنتخب الوطنى.. و المدرب الأجنبي يصرح بدأنا الطريق الصحيح و اللهم لا حسد.
لم أفهم شيئ مما قرأت وازداد موقفى المقاطع للصحف صلابة فهذه الطلاسم يحتاج فهمها لتدريب شاق منذ الطفولة .
مرت ساعات ولم تقف أى حافلة..وأصبح العرق يتصبب بغزارة من كل جسدى.. والألم يكاد يمزق امعائى أحاول أن امنع خروج فضلاتي إلي الشارع …قمت من علي مقعدى تحت مظلة المحطة وأخذت أشير بكلتا يدى وبشكل عشوائى لكل المركبات المارة الخاصة والعامة..وفجأة إلتقط سائق إحدى عربات البلدية المخصصة لنظافة المدينة… إلتقط اشاراتي توقف أمامي وترجل من العربة فإذا به رجل ضخم الجثة صارم الملامح ويرتدى زيا شبه عسكرى تزينه الكثير من البقع الدهنية لتخفي حقيقة ألوانه وبدون ان يستفسر عن وجهتي فتح بابا خلفيا للعربة وأشار لي بالصعود..تقدمت إلي الباب متثاقلا..دفعني بعنف إلي جوف السيارة.. أغلق خلفي الباب دون أن انطق بكلمة لاجدنى اغوص في بحر من المخلفات التي سرعان ما اختلطت بمخلفاتي..وبرغم ما ينهال علي رأسى في كل توقف للسيارة..حتي أني أرفع رأسى بالكاد لاتنفس وبرغم الرائحة الخانقة لمخلفات البشر وبرغم أني لم ألحق بالصلاة إلا أنى شعرت بالراحة و سعدت بالتجربة.
التعليقات مغلقة.