الناقد والقاص اليمني/ نجيب صالح طه اليمن… قراءة نقدية لقصة ذاكرة تلّ الذّخيرة للقاص أسامة حواتمة
ذاكرة تلّ الذّخيرة
تَسَوَّرَهَا بِمعصَمِهِ مُنتَظِرًا سَاعَةَ الصِّفْر، مُتَقَرفِصٌ رَاقِدٌ مُتَخَندِقٌ ومن ثُقبِ المُوَجِّهِ ينظرُ إلى رَأسِ الشُّعَيرَةِ وبِمُوَازَاةِ قُبَّةِ صَخرَتِنَا هُنَاك… مُرتَجِفٌ جُندِيٌّ صَهيُونِيّ!
-فِي أَسفَلِ مُنتَصَفِ الهَدَف، الآن… تَسدِيد…
مَاذَا؟!
-الاتِّصَالُ مُعَطَّلٌ والإِمدَادُ مَقطُوعٌ والإِرتِجَالُ مَسمُوحٌ.
-إذن، تَصوِيبٌ من جديد…
-الحمدُ لله! رؤوسُ العَدُوِّ مُشتَعِلَة…
لَكِن،
مَاؤُنَا نُزُرٌ، خُبزُنَا يَبِسٌ، عَشرُ رَصَاصَاتٍ ذَخِيرَتُنَا لِكُلِّ جُندِيٍّ، أزيزُ قَذَائِفِ طَائِرَاتِهِم فَوقَنَا، مِنَ البَحرِ دَبَّابَاتُهُم أَرتَالٌ أَرتَالٌ حَولَ سَرِيَّتِنَا؛ عَلَى تَلَّةِ ذَخِيرَةِ الأَقصَى الغَيمُ مُلتَهِبٌ دُونَ أَعنَاقِ نِيرَانِهِم…
-يَا إِلَهِي! أَنُورٌ وَحُورٌ وَأَنَا وَإِخوَتِي تَحتَ الأَنقَاض؟!
بَعدَ أَربَعَةٍ وَخَمسِينَ عَامًا مِن مَعرَكَةِ “تَلَّةِ الذَّخِيرَةِ” عَلَى أَسوَارِ القُدسِ، جَرَّافَةُ بَنِي صَهيُون عَلَى أَشفَارِهَا:
(رُفَاتٌ وِسَادَتُهَا عَلَمٌ أُردُنِيٌّ بَينَ أَعلامٍ شَقِيقَة، وَسَاعَةُ يَدٍ مُتَوَقِّفَة).
أسامة الحواتمة/الأردن
الجو العام للقصة:
القصة قصيرة ومن النوع الموجز المواكب للأدب القصصي الحديث.
وهي أي القصة القصيرة،إن كانت مابين الألف والثلاثة آلاف كلمة وأكثر….
إلا أن هذه القصة ذات المئة الكلمة من جنسها، إذ أن كل عناصرها متوفرة فيها، بنسبية محترفة، تتوافق ومنهجية القص الحديث.
وهي مدونة تاريخية لكتيبة: ( الحسين )، والتي أسميت فيما بعد: ( بسرية أم الشهداء)- 1967م- التي واجه فيها أبطال فلسطينيون وعرب آنذاك العدو الإسرائيلي المددج بالسلاح، والأكثر عددا في الجنود، ولولا تمكن الكاتب من السرد المحكم لما عرفت تاريخ حدوثها.!
أسامة الحواتمة كاتب مجيد للقصة القصيرة جدا وقارئ بارع وهذه أول قصة قصيرة أقرؤها له
والقصة تعرفنا أيضا بأن للكاتب خبرات عسكرية أيضا (ثقب الموجه، رأس الشعيرة، أرتال..).
عنوان النص ( ذاكرة تل الذخيرة ).
العتبة الأولى للنص مكونة من ( كاميرا) التوثيق وتحويل ما سمعه لقصة..
كلمة ( ذاكرة ) وهي الحاضر الزمني بشخصية السارد وهو الكاتب نفسه والذي نجده في القصة كسارد ومشارك وجدانيا، + (تل الذخيرة).
كلمتان دلالة على المكان بإضافة تشرفية موفقة الاختيار والتعريف.
فتل الذخيرة اسم لمكان وزمان حدوث تلك الملحمة البطولية في القدس وعلى مقربة من المسجد الأقصى.
في القصة ذات المئة كلمة تقريبا إذا ما استعبدنا حروف الجر، فعلان فقط هما :
( #تسورها ) وجاء على لسان السارد وهو فعل ماض و ( #ينظر) وهو فعل مضارع وجاء به على لسان بطل القصة ( هو)، بضمير الغائب…!
فهي على غير المألوف إذن !
وفي نفس الوقت مكتظة ( بالزمكنة)، والحوار السردي الزمني في مكان زمني أيضا..!
وقناعتي الشخصية تقول وفقا لأسس النقد :
أن هذه القصة تحفة فنية متمردة على ( الجمل الفعلية)، وهي مطية القص والكتّاب عادة، معوضا عنها بالأوصاف المشتقة لاسم الفاعل الذي يأخذ صفة الثبات والدوام ومن أفعال رباعية -غالبا- ربما لأن الذين بقوا من المعركة تلك هم: (4) جنود فقط من إجمالي عدد أفراد السرية البالغ عددهم (100) وجنديا واحدا!
ربط الكاتب بين مقدمة قصته، ونهايتهابطريقة مبدعة
ركز على فيها على عنصر الزمن المتمثل في ساعة اليد:
في بدايتها: ( تسورها بمعصمه )
وفي نهايتها: ( وساعة يد متوقفة ).
وما بين البداية والنهاية، تفصلهما أربعة وخمسون عاما …!!
فعرفنا بتاريخ تلك المعركة، وكذلك تاريخ كتابته لتلك القصة.!
بالرغم من مرور هذه الفترة الزمنية،ظلت ساعة الزمن متوقفة،لأنها لم تحدث جديدا على مسرح الصراع الإسلامي الصهيوني،
فالشهداء ما زالوا يقدمون أرواحهم مهرا لجنة عرضها السماوات،والأرض،
والصهيونية ما زالت في تدميرها لكل معان الإنسانية،
والعرب ما زال اتصالهم مقطوع عن قضيتهم، وشرفهم.
(يا إلهي! أنور وحور وأنا وأخوتي تحت الأنقاض؟.).
شخصيات ثانوية جديدة هنا بجانب البطل، الذي تسور ساعته، وهو ينظر من ثقب الموجه لرأس الشعيرة،
وهي من مكونات الرشاش الآلي أو البندقية.
فرأس الشعيرة:
الموجه الأمامي للبندقية، الذي يتم التسديد على الهدف من خلاله.
وتلك الجملة:
يا إلهي!…..
جملة موجزة، وضحت لنا مدى الفجيعة التي وقعت فيها كتيبة (الحسين)، أو ما سميت فيما بعد ( بسرية أم الشهداء ).
فعلى الرغم من بسالة الكتيبة، إلا أن من استشهدوا فيها كانوا سبعة وتسعين شهيدا،
وتبقى أربعة!
وهنا براعة في عمد الكاتب للوصف والوصف السردي الحواري، وهو جوهر القص، ومظهرها الخارجي..
براعة باقتدار عجيب!
حيث جعل الوصف طريقة، لاستحقاقهم الأبدي من التوصيف، والذكر الحسن ..
ذلك ما أراد أن ينقله لنا الكاتب من خلال جملته السابقة،
في مقدمة القصة أراد أن ينقل لنا إحساس ثلاثة عناصر :
الجندي المسلم:
المتأهب اليقظ صاحب الهدف…
الجندي الصهيوني: المرتجف من وراء ذخيرته….
وهنا ما يسميه النقد: بالشخصية الحدث، حوّلهم لحدث بمهارة عالية.
القرار العربي:
في حالة خذلانه للجندي المتأهب خذلانه لأهم أدواته في معركته مع العدو…
لمس الكاتب سر بقاء القضية الفلسطينية في نفوسنا، وأهم ما يميزنا وهو الأمل وعدم الاستسلام،
وهذه سمة أصحاب الحقوق، فضلا عن أصحاب العقيدة الإلهية التي تطالبنا دوما بالثقة في وعد الله بالنصر.
في قوله:
( إذن: تصويب من جديد )
لكن..
(ماؤنا نزر، وخبزنا يبس…..)
أجمل بهذا التصريع الموسيقى العذب..!
فالقصة المكتملة ( شخصيات، وأحداث، وزمان،ومكان، ومسرح، ولغة، وشعر، وحوار …).
وأعظم بدقة الكاتب حين اختار ( يبس)!
بدلا عن يابس…!
لأن ( يبس )صيغة مبالغة على وزن ( فَعِل)، وهي دون غيرها من سيعكس الحالة المأساوية التي كانوا عليها، وافتقارهم لمؤنة السلاح،والغذاء، والماء، والرفد،والعون…
وبتصريع بديعي موسيقي جميل.
شخصيات ثانوية في القصة، اختارت الموت بشرف..!
و يذكرنا الكاتب هنا، بمنهجية انتهجها قادتنا من سلفنا، عندما كانوا يخرجون الصالحين معهم ليدعوا لهم ربه،
وذكرتنا بقول القائد الفذ،عندما رأى العبد الصالح (الربيع بن خيثم)، وهو شيخ طاعن في العمر في آخر صفوف المسلمين، يرفع أصبعه للملك الجبار،ويدعو أن ينصر جيش المسلمين..
فقال قائد الجيش: “لبصبصة أصبع الربيع عندي بجميع من في الجيش..”
فكانوا يعلمون أن النصر بيد الله وحده.
وكذلك أولئك الجنود، وذلك البطل الذين ارتجلوا القرار في وقت الانقطاع التام عنهم…
وكان من بينهم جنودا مصريين، وعراقيين أيضا…، ونسبة الجنود المصريين مرتفعة، ولا عجب هنا، فأم الدنيا وأرض الكنانة كانت حاضرة بقوة في المشهد القومي العربي عامة.
وعند إشارة الكاتب بقوله:
( بموازاة قبة صخرتنا )
لمحة إيمانية وسبب مباشر، وأساسي في المعركة بين الحق والباطل،
الاتصال معطل
الإمداد مقطوع
الارتجال مسموح..
بل الأخير خيارهم الوحيد، فالهروب، والإستسلام ليست بواردة في الذهنية البطولية العربية تلك..
تناسق عجيب بين الكلمات،
وتوصيف رائع لحال الأمة مع القضية الفلسطينية بين الماضي والحاضر.
الكاتب يتحدث عن معركة في بدايات صراعنا مع الصهيونية لكنه استطاع من خلال هذه الكلمات القليلة أن يلمس قلب الحقيقة.
لكن تعازينا أن إمداد السماء لعباده المخلصين من المرابطين والمجاهدين مازال مستمرا.
صورة رائعة، والمتمثلة في الاستعارة التصريحية في قوله:
(على تلة ذخيرة الأقصى)
إذ جعل جنود سرية أم الشهداء ،على تلك التلة هم الثلة المؤمنة المدافعة عن الأقصى آنذاك .
فقلة ذخيرتهم ،وعظم عداد عدوهم، ومحاصرة عدوهم لهم إلا أنهم كانوا ذخيرة الأقصى بقلوبهم، وإيمانهم بقضيتهم
جرافة بني صهيون على أشفارها:
تعبير قوي عن حدة العداء، وهمجية الاغتصاب للأرض والإنسان.
وما زال الكاتب يتحفنا بمفرداته المليئة بدلالتها العميقة
(جرافة): تكثيف لمراد الصهاينة ،وهو محو كل أثر إسلامي من هذه البقاع الطاهرة.
وإيماء بمدى صلابة أهل الأقصى -حماهم الله- فبعد كل هذه السنين،لم تستطع هذه الجرافة مع كل الإمكانيات التى وضعها الغرب المنافق لها، والخذلان من بني جلدتنا التي سهلت أمرها فما زالت الجرافة لم تصل ،ولن تصل لهدفها.
وجملة القول:
الكاتب استطاع أن يجمع بين ماضٍ، وحاضر من خلال تذكره لأشرف، وأشرس المعارك مع العدو من خلال تركيزه على استخدام، مفردات ذات دلالات قوية،وصور بلاغية دقيقة تصل بمراده للقاريء، وكم هي مستقرة تلك الكناية التي تجسد البطولة حتى كأننا نراها في قوله:
( الغيم ملتهب دون أعناق “نيران” بنادقهم…).
وقد تعرضنا لقفلته المدهشة المتعلقة ، ببطل قصته ،وهو ذلك الجندي الأردني الذي ظهر بعد قرون بساعة يد متوقفة ،وكأنه مات الساعة واللحظة…!
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.).
أخيرا :
هل كان محايدا، حين ذكر فقط الجندي الأردني من بين جنود عرب آخرين وفقا للرؤية الداخلية للنص؟
نعم كان محايدا وجدا…
لأن الجندي الأردني البطل، والساعة ،والعلم كانت من مضبوطاته حين سلموه للأردن،
وحتى آخر سطر، والكاتب يبرهن لنا تمكنه من لغة القص حين قال:
( …رفات وسادتها …)، كان رفات الجندي الشهيد نائما، لا ميتا منذ عقود من الزمن. غير أنني لم أسترح لدلالة كلمتي :(متقرفص ،راقد .)
أعلم أنه أتى بهما، للدلالة على التهيؤ، والاستعداد، ووضعية يتخذها الجندي أثناء الرماية، وكمصطلحات عسكرية ربما …
لكن لغلبة دلالتهما على الخنوع ،والضعف في ذهن القارئ، يقلل من دلالتهما التي أرادها الكاتب.
وكان بإمكانه أن يستعيض – مثلا- ب: “مرابض، متوثب….
قصة قصيرة رااائعة ومكتلمة،وتفتح بابا جديدا،في اعتمادية الأفعال بكثرة كدلالات على الحدث والزمن.
ومشروع رواية خالدة.
التعليقات مغلقة.