الهروب من الصورة قصة قصيرة بقلم /عصام الدين محمد أحمد
اقلب مؤشر القنوات، تتقاطع الصور؛ فتاة بضفيرتين جاثية فوق ركبتيها، تنخرط في البكاء، بيدها كراسة.
شيخ يشير إلي المدافع المرابطة فوق بيته، يطلق قذائف الكلمات، والمراسل يلاحقه بالميكروفون، سماء مظلمة تضيئها عناقيد القنابل، لوحة سريالية غير مفهومة، أرض متجمرة تكتنفها الأدخنة السوداء.
راقصة تنفض قدها المبقع بالقرصات، تتلوي كالثعبان المُطارد، ومطرب يغني لها:”رايحين علي فين.”
جنازات ومظاهرات وشجب وإدانة.
يداي ترتعشان، زوجتي تأمرني بالتحويل علي التمثيلية، لا أمتثل، ولا أدري كيف واتتني الشجاعة؟
طلبت منها إعداد فنجانا من القهوة، ولكنها أبت، أعتقد أنني ذكر وعليها تلبية طلباتي.
أزعق، لا تعيرني التفاتاً.
تخفت نبراتي، ترفع طرف جلبابها، أنخرس، لا بأس- أذن- من الفرجة علي المسلسل:
البطل شكله غلبان، يبحث عن عمل، الأبواب موصدة، أجره في المسلسل عشرون مليون جنيه، والبطلة حفيدة رجل أعمال، بيده سيجار، استلف من البنوك ملياراً، والمؤلف يفتعل المواقف ليجمع البطل والبطلة في مكان واحد، نزولا علي رغبة المؤلف ساقط الابتدائية، والكاميرا تغادر الحارة والزحام، والردح عمال علي بطال، ليسكن القصور المتلألئة، وزوجتي تسألني عن أشياء لا أعرف لها اسما، اختنقت، أنفاسي تخشي اللهاث، ولكن ما جدوى الشكوى في وجود مثل هذه الزوجة المتربصة؟
تحمل يا فتي، اشحذ الهمة.
تعبان وهزلان، أتناول حبتي مخدر، جسدي يخبو وميضه، يتناوبه القوة والوهن، ياه..هاهو طفل تفرفره الطلقات، يتخبط في الظلام، يتشبث بالفراغ، زحام القدود المنهارة تستخلصه من أسفل الركام.
أعلي يسار الصورة راية، فعلا أنها راية، ولكنها ممزقة، تقف علي استحياء، نجوم سداسية وخماسية ورباعية ونسر يفرد جناحيه وصليب معقوف هنا وهناك، دبابات، أظن أنها دبابات أو مدرعات أو قاذفات، من المؤكد أن هذه جرافة، ما هذا الخيال الجامح؟
ما الضرورة لوجودهم وسط هذه الكراكيب الهشة؟؟
الطفل الذي غربلته الرصاصات يقترب مني، يداه ملوثتان بالدماء، علي شفتيه كلمة عمو، أبتعد فالدماء قد تلطخني وقميصي هو الوحيد الذي أمتلكه.
وفي يمين الصورة جبال ومغارات وبيوت من الطين، لا…لا…إنها من الرمال؛طين..رمال..يا قلب لا تحزن، وأصحاب وجوه جهمة قانطون، ينتشرون فوق التلال، طائرات في السماء، تحيلها إلي شهب ونيازك، أف 12، أنظر جيداً؛إف 16، أمعن أكثر، لحظة من فضلك، لحظات يا سيدي؛ماذا وراءنا؟
أنها الشبح، رصدتها، رصدتها، كيف يقولون أن الرادار لا يرصدها، وبعيوني المجردة ألمحها، لا تنس يا فالح أنك تشاهد التلفاز!
لا أستطيع تثبيت ناظري أكثر من ذلك، السماء تطبق علي البيوت، الأرض تبتلعها، تتطاير أذرع وسوق وهامات، بعنف أنتصب مخافة أن تلطني واحدة منها، ولكن وقفتي لم تكتمل، فاتهاوى كالحمل الثقيل، نسيت أن أخبرك إنه في هذه البيوت أطفال ونساء وشيوخ، ولكنني الآن لا أرى أحداً، ربما آثروا الطيران في السماء، هذا الطرح غير منطقي، ربما تحولوا إلي ذرات من تراب، ربما كانت هناك رغبة عليا لتسميد الصحراء، الأغبرة تتبخر، رذاذ جاف، رذاذ لزج ومخاط، عيناي يا بوي، أعصب أنفي بخرقة قماش، فالدواء-كما تعلم- غالي الثمن، ولو امتزجت أنفاسي بالأتربة لنفرت مني زوجتي في الفراش، أدعك عينيّ، شارفتا علي الالتهاب، ها هي زوجتي في الصورة، افتكرت القط، فجاء ينط وفي رقبته جرس، أدركت الآن ماذا فعل بي الفاليوم.
لماذا لا أذهب إلي طبيب نفسي؟
أترحرح معه في الحديث، أسترجع في حضرته الماضي، ربما كان أبي قاسياً، وربما كانت أمي صابئة!
لن يفيد الذهاب إلي الطبيب النفسي.
أسمعت عن الفضفضة والبوح؟
ها أنت قد ولجت عش الدبابير.
دعك من التخريف، انصت لزوجتك فهي تعد لك الآن كوبا من القهوة وطبقا من اللحم البارد، وربما تغير ملابسها.
ألم ينته تأثير المخدر بعد؟
أدمنت المخدر يا حبة عيني، ففي السابعة صباحا الهرولة لمقر العمل، مدير، مدير للمدير، موظفون، أوراق، عراك، خصومات، تهديد بالطرد، وفي الثانية ظهرا شوارع، وعرق، ونفاد صبر، وميكروباص، وشقة، وطبلية، ولقمة عيش، وشربة ماء، جري للمتجر، دفاتر، حسابات، أزمات، رجال، نساء، أجر طفيف، وفي الواحدة مساء كيس فاكهة، أرغفة فينو، نصف كيلو جبنة، زوجة متنمرة، كشاكيل، أقلام، مدرسون، مصاريف، إيصال نور، فاتورة مياه، أجرة الزبال، البقال، الجزار، الحلاق، وفي الثالثة مساء نوم، كوابيس، رفسات الزوجة، شباط العيال.
يرن جرس المنبه معلنا السادسة صباحا، أنهض من غفوتي متكاسلا محطما، أبدل هندامي، أخطو هاربا من الصورة.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.