“الواقعية السحرية …تفرد المكان والإبداع ” دراسة نقدية تحليلية لقصيدة “بلصفورة ” للشاعرة صفاء عابدين .. نقد وتحليل /أسامــة نــور
“الواقعية السحرية …تفرد المكان والإبداع ” دراسة نقدية تحليلية لقصيدة “بلصفورة ” للشاعرة صفاء عابدين .. نقد وتحليل /أسامــة نــور
النص :-(بلصفـــــــورة)
هيَ العزيزةُ في الأعماقِ مسكنُهـا
و في الفؤادِ أَراها تملكُ النَّبضــا
مهما نأيتُ فحبل الودِّ متصـــــلٌ
لَا أرتضِى غيرَها أهلًا ولَا أرضـــا
البــــاءُ بلسمُها ..والــلامُ لؤلؤُها
والصــادُ صبَّ على أحداقِها وَمْضا
والفــاءُ فجرٌ به ماستْ كسوسنةٍ
بينَ الحروفِ فألقتْ نفحها روضـــا
والـــواوُ ومضًا رآهــا في تألقــها
هاماتِ عزٍ لنا لا تَرتضي خَفْضـــا
والــراءُ روحي تغنت في شمائلها
تستنطقُ الحب تَأبى الحقدَ والبُغضا
والتاء تلك التي في خِدرهــا جعلت
للعابدين تهادي حبها غضّـــــــــا
هي الثُّريــا ،ونوُر العلمِ منهلهــا
ودهشةُ العينِ تسعى نحوها ركضا
هيَ الملاذُ و مَثوى الراحلينَ بــِها
يا حبَّذا العيشُ في أفيائِها يُقضـى
و كَمْ أحجُّ لها والروحُ تأخــــُذني
عبرَ الأثيرِ أطوفُ الطولَ والعرْضا
إنـــي أحبُّك حبّاً قدْ تَملكنــــــــي
وفيكِ قَدْ صارَ عشقي والهوى فَرضا
النقد للأستاذ أسامة نور
***مقدمة :-
يتفرد الشعر عن غيره من فنون اللغة ، بالتأثير في الآخر ، وبوقعه الساحر على المتلقي ، وباختراقه عمق الشعور
والوجدان ..
وفي هذاقال الرسول الكريم ” إن من الشعر لحِكَمًا وإن من البيان لسحرًا “
والشعر فن العربية الأول ، وهو مكمن الزهو والفخار ، فكما كانت العرب تزود عن نفسها بالسيف كانت تزود عن نفسها بالشعر ..
…كما أن الشعر هو أقرب الفنون للتعبير الذاتي ، وتصوير ما يعترك في النفس من أحاسيس ،ومشاعر شتى ، يهدهدها الشاعر فيخرجها لنا إبداعًا نسعد به ،وربما كان يتألم هو ويبكي حين إبداعه.
وكلما استطاع الشاعر نقل إحساسه ومشاعره بدقة ومهارة بحيث يتماس معها الآخر ،وي
تجاوب معها ..أثر في نفس المتلقي شريطة أمتلاكه فنيات الشكل الشعري ..
والإبداع هو إن يأتي المبدع بما لايستطيعه الآخرون ،هو التميز والتفرد ..التجديد في الشكل أو المضمون أو في كليهما ..
——–؛؛؛؛؛؛——-
** “ماهية العنوان ودلالته “
إن للعنوان أثرًا ووقعًا في النفس ؛فهو مدخل رئيس للنص ، بل هو نص مصغر يعبر عن النص الأصلي ..
لهذا أفرد الباحثون دراسات توضح أثر العنوان ،وماهيته ودلالته ، وأثره على المتلقي ودوره في النص ..
وقد ذهب إلى أهمية العنوان ودوره في النص الناقد الفرنسي “جيرار جينت “.
والعنوان هنا..”بلصفورة”..
وبلصفورة هي بلدة بمحافظة سوهاج ..حيث ولدت الشاعرة
ونشأت ،فهي موطنها الأول ..وللموطن أثر كبير في النفس ؛
لذلك هي تعرض تجربة وجدانية ،حياتية ،مكانية ..
وللمكان أثر كبير في وجدان الشاعر ..كما أن له تواجد
كبير في الأدب بشكل عام .
والحياة بكل جوانبها ،والأدب خاصة يقومان على بعدي الزمان المكان .
وعلاقة الشاعر بالمكان ذات أبعاد متعددة تستحضر الواقعي والخيالي ، ذكريات الماضي وعبقه .. وحنين الحاضر ،وأمنيات المستقبل ..
إن المكان هنا يتجاوز الحد الجغرافي والزمني إلى مايسميه “باشلار ” سمات المأوى التي تبلغ حدًّا من البساطة، ومن التجذر العميق في اللاوعي يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها “
فالمكان لم يعد مساحات وفراغات ،بل يتعداها إلى الخيال وديناميات اللامتناهي في الفعل الإنساني ، الذي يعبر عن الديمومة ، فالمكان هو منطلق الشاعرة ومنتهاها في تشكيل نصها الشعر المكاني ..الذي تصبغة بالخيال المجنح ..
مما جعل النص يجنح للواقعية السحرية.
فالعنوان مشوق ؛ فهو بمثابة استكشاف للمكان بكل أبعاده.
———-؛؛؛؛؛؛؛——–
**من حيث الشكل والموسيقى الخارجية “
كتبت الشاعرة النص على الشكل العمودي ؛حيث التزمت الوزن والقافية ، فجاءت قصيدتها على بحر البسيط ..وهو من البحور المركبة ( الممزوجة ) ؛ حيث يتكون من تفعيلتين تتكرران في كل سطر شعري ..
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
ويتميز بحر البسيط بموسيقاه المنطلقة ، الهادرة التي تجذب المتلقي ، وهو يتناسب مع الحالات النفسية المتعددة .
وحرف الروي هو الضاد مفتوح الحركة ..والألف المشبعة بعد الضاد هي الوصل ..
وحرف الضاد ..من الحروف التي يندر استخدامها في الروي ..ومن صفاته
الجهر.
الرخاوة.،الاستعلاء.،الإطباق.،الاستطالة.،الإصمات.
التفشي.
يعتبر حرف الضاد هو الحرف الخامس عشر في أبجدية اللغة العربية، ويعتبر أهل اللغة أن العربية هي اللغة الوحيدة التي اشتملت على هذا الحرف الصوتي في أبجديتها؛ حيث أن حرف الضاد جمع صفات جميع الأحرف فيه، ولذلك أطلق على اللغة العربية اسم لغة الضاد.
واستخدام حرف الضاد في الروي يدل التفرد والتميز لهذا المكان ،وعلى تفرد وتميز الشاعرة ؛التي اختارت صوتًا مميزًا
لموطنها .
كما أن إطلاق الروي بالألف يدل على الانفتاح على مناحي الحياة،على امتداد العزة والشرف والسمو.
بالإضافة إلى الأثر الموسيقي الرائع ..
ومن هنا كان للموسيقى الخارجية أثرها في النص ..
———؛؛؛؛؛؛؛———
** “من حيث اللغة والمضمون والتجربة الشعرية “
استخدمت الشاعرة اللغة الجزلة ؛التي تغير عن الفخار بموطنها ،وتظهر جماليات وتفرد هذا المكان ..
فالشاعرة تعبر عن تجربة واقعية حقيقية ..تعبر عن حبها لموطنها ..وذكرياتها ..وللموطن أثر كبير في النفس ووقع .
فهمها ارتحل الإنسان ..يبقى حنينه وحبه لوطنه الأصلي
غريزة فطرية .
فتقول الشاعرة معبرة عن ذلك :-
هي العزيزةُ في الأعماقِ مسكنُهـا
و في الفؤادِ أَراها تملكُ النَّبضــا
مهما نأيتُ فحبل الودِّ متصـــــلٌ
لَا أرتضِى غيرَها أهلًا ولَا أرضـــا
فعبرت عن موطنها وكأنه صديقة مقربة ..أو إنسان عزيز لديها ..فقد أضفت عليه العقل ..والروح ..
هو حب فطري يملأ كيانها ..
ثم نجد الشاعرة تفرد حروف موطنها (بلصفورة )..وتجعل كل
حرف يرتبط بميزة له ..
فتقول :-
البــــاءُ بلسمُها ..والــلامُ لؤلؤُها
والصــادُ صبَّ على أحداقِها وَمْضا
والفــاءُ فجرٌ به ماستْ كسوسنةٍ
بينَ اذا الحروفِ فألقتْ نفحها روضـــا
والـــواوُ ومضاً أراهــا في تألقــها
هاماتِ عزٍ لنا لا تَرتضي خَفْضـــا
والــراءُ روحي تغنت في شمائلها
تستنطقُ الحب تَأبى الحقدَ والبُغضا
والتاء تلك التي في خِدرهــا جعلت
للعابدين تهادي حبها غضّـــــــــا
وتجعل كل حرف يرتبط بميزة ..تحلق في تصوير رائع ..
فخرجت بنا من الواقعية للخيال…
إنها الواقعية السحرية ..التي تفرد بها هذا المكان ..
ثم تكمل قائلة :-
هي الثُّريــا ،ونوُر العلمِ منهلهــا
ودهشةُ العينِ تسعى نحوها ركضا
هيَ الملاذُ و مَثوى الراحلينَ بــِها
يا حبَّذا العيشُ في أفيائِها يُقضـى
و كَمْ أحجُّ لها والروحُ تأخــــُذني
عبرَ الأثيرِ أطوفُ الطولَ والعرْضا
أنها الثريا في رفعتها وعلومها ..وهي الامان والملاذ
وهي المقصد ..تحن إليها الروح؛ لتنال الراحة ،السكينة والحب .
هو عشق المكان بالفطرة ، وذكريات لا تنسى تعمقت في العقل
والوجدان ..
———–؛؛؛؛؛؛———–
**”من حيث الأساليب والصور ..فنيات الإبداع “
اعتمدت الشاعرة علي الأسلوب الخبري للتأكيد والتقرير ..
وطرح ما يجول بخاطرها ..فنجد
هيَ العزيزةُ في الأعماقِ مسكنُهـا /و في الفؤادِ أَراها تملكُ النَّبضــا/ مهما نأيتُ فحبل الودِّ متصـــــلٌ /لَا أرتضِى غيرَها أهلًا ولَا أرضـــا
ويستمر ذلك حتى نهاية النص
فنجد التأكيد
إنـــي أحبُّك حبّاً قدْ تَملكنــــــــي
وفيكِ قَدْ صارَ عشقي والهوى فَرضا
وقد استخدمت الأسلوب الإنشائي من خلال
يا حبَّذا العيشُ في أفيائِها يُقضـى…للتنبيه والتمنى ..وحبذا للمدح ..
وتبقى الصورة بجمالها، وتفردها، وطرافتها هي أهم فنيات الشعر .فكلما أبدع الشاعر في التصوير كان لذلك وقع وأثر في النفس ،له دوره في نقل العاطفة والإحساس والفكر ..
فنجد هنا أن الشاعرة انتقلت من الواقعية..إلى رحابة الخيال
فجعلت النص يميل إلي الواقعية السحرية ..بإضفاء الخيال والصورة على النص ،وإبراز جماليات المكان..بجوانبه المتعدده ..
فنجد .. هيَ العزيزةُ في الأعماقِ مسكنُهـا
و في الفؤادِ أَراها تملكُ النَّبضــا/مهما نأيتُ فحبل الودِّ متصـــــلٌ/لَا أرتضِى غيرَها أهلًا ولَا أرضـــا
البــــاءُ بلسمُها ..والــلامُ لؤلؤُها
والصــادُ صبَّ على أحداقِها وَمْضا/والفــاءُ فجرٌ به ماستْ كسوسنةٍ/بينَ الحروفِ فألقتْ نفحها روضـــا
نلاحظ دقة الصورة ورحابة الخيال والسلاسة في التعبير
وكذلك
والـــواوُ ومضاً أراهــا في تألقــها
هاماتِ عزٍ لنا لا تَرتضي خَفْضـــا/والــراءُ روحي تغنت في شمائلها/تستنطقُ الحب تَأبى الحقدَ والبُغضا
..هنا تشخيص المكان وأنسنته ،وروعةالتصوير ورقيه
يجعلنا نتلهف للقراءة والاستمتاع بالصورة التالية ..
ونجد الرفعة والإعلاء..وتمني العيش فيها ..
حتى إنها حببت القارئ في موطنها هذا ..
هي الثُّريــا ،ونوُر العلمِ منهلهــا
ودهشةُ العينِ تسعى نحوها ركضا
هيَ الملاذُ و مَثوى الراحلينَ بــِها
يا حبَّذا العيشُ في أفيائِها يُقضـى
صور طريفة ..فيها تمكن وقدرة وقوة وسعة خيال ..
تناسب الحالة الشعورية ،والحالة النفسية داخل النص ..
كذلك نجد الجمل المتجانسة ،المتناغمة ..والتقديم والتأخير
مثل ..وفي الفؤاد أراها /فجر به ماست/في خدرها جعلت ..
“ومضًا أراها “/”وفيك قد صار عشقي “
والتقديم للقصر والتخصيص والتأكيد .
وحسن التقسيم الذي أعطى جرسًا موسيقيًا وهناك تقسيم عام ..وهو تقسيم أحرف “بلصفورة” على أبيات النص ..
وتقسيم داخلي خاص وهو تقسيم الجمل والصورة
مثل
البــــاءُ بلسمُها ./.والــلامُ لؤلؤُها/والصــادُ صبَّ على أحداقِها وَمْضا
وكذلك ..
هي الثُّريــا /،ونوُر العلمِ منهلهــا/ودهشةُ العينِ تسعى نحوها ركضا
وكذلك
كَمْ أحجُّ لها/ والروحُ تأخــــُذني /عبرَ الأثيرِ أطوفُ الطولَ والعرْضا..
ونجد التضاد في” نأيت ،الود “/” الطول ،والعرضا”
..وتنوع الأساليب مما جعل الموسيقى الداخلية ..تتجاوب مع الموسيقى الخارجية في تناغم وحركة
مما أحدث متعة سمعية ، ..
——–؛؛؛؛؛؛؛؛———-
**الإيجاز والمؤثرات الحركية “
من أهم ما يميز النص الإيجاز فقد استطاعت الشاعرة التعبير عن العمق الشعوري بإيجاز وبلاغة راقية ،كذلك كان للمؤثرات
الحركية دورها في إظهار النص وجعله كائنًا حيًا تسير فيه الروح النقية الشفافة الصادقة .
وكأننا أمام مقطوعة موسيقية عذبة ،شجية ،لا نمل سماعها
فكلما قرأنا القصيدة نزداد شغفًا ، وتعلقًا بها .
——–؛؛؛؛؛؛——-
**”تبقى من وجهة نظري”
١- في قول الشاعرة “والـــواوُ ومضًا أراهــا في تألقــها”
الوميض هو الضوء السريع الخافت..الذي يضيء لبرهة
وهذا لا يتناسب مع جو النص والهدف منه ..
٢- تكرار التوكيد في قولها “
“إنـــي أحبُّك حبًّا قدْ تَملكنــــــــي
وفيكِ قَدْ صارَ عشقي والهوى فَرضَا”
التأكيد بتقديم الجار والمجرور فيك وبعده الحرف” قد..”
أحدث ثقلًا ..خاصة أن التأكيد لا مبرر له ..فهو تأكيد مالا يلزم ..كذلك استخدام الهوى بعد عشقي فالعشق درجة أعلى
في الحب ،فاستخدام الهوى لم يفد المعنى .
——–؛؛؛؛؛؛؛؛———-
قصيدة راقية رائعة ؛عامرة بالجمال والرقي وفنيات الإبداع ،وبالحركة والتناغم الموسيقي ..
يتحقق معها الإبداع والإمتاع ..
تحياتي أسامـة نـور
التعليقات مغلقة.