الوردانى الجميل …
د.أحمد دبيان
والحكاية حكاية بطل لو ظهر فى العصور الوسطى لكان من أبطال السير الشعبية .
ولأن فترات تحرر المصريين كانت شحيحة ونادرة ولأن فترات التوجه والذاكرة الوطنية المخلصة الحقة كانت أندر .
ظل الخونة والعملاء وأحفادهم الحاكمين المتحكمين فى الوعى والتاريخ الا قليلاً وكان هذا القليل حين قامت ثورة الشعب عام ١٩٥٢ ولتنتهى عام ١٩٧٠ ليعود أحفاد الخونة فيتصدروا المشهد ويحكموا برداء الحملان والذئب فى القلب والحقد والقالب.
جاء عام ١٩١٠ لتمرر الشركة العالمية لقناة السويس البحرية والتى كانت تمثل دولة داخل دولة محتلة بواسطة الانجليز والمكتب الرئيسى فى باريس ، مقترحاً بتمديد امتياز قناة السويس الذى ينتهى عام ١٩٦٨ ولمدة اربعين عاماً آخر رغم ترويجات طبيب مسالك مدعى تاريخ عن امانة الشركة وعزمها على ارجاع القناة عام ١٩٦٨.
وليتبنى المقترح ويدافع عنه ويروج له بطرس غالى باشا رئيس الوزراء وقتها والقاضى والجلاد الذى حكم على شهداء دنشواى بالإعدام .
كان ممن دافعوا عن مد الإمتياز ايقونة الإصطناع سعد باشا زغلول ، الذى تم تصديره لاحقاً كزعيم لثورة ١٩١٩ وتهميش الدور البطولى الأساسى لزعيم الثورة الحقيقى عبد الرحمن بك فهمى.
أثناء عرض مشروع التمديد كان يحضر الجلسات صيدلانى شاب يدعى ابراهيم ناصف الوردانى .
وإبراهيم ناصف الوردانى من مواليد 1886 ورغم القليل الذى يذكره التاريخ عنه كعادة التاريخ الذى يخطه المتحكمين المتصدرين للمشهد بعمالاتهم المتباينة الا اننا نعلم انه كان من أعضاء الحزب الوطنى حين تولى قيادته الزعيم الوطنى محمد فريد .
و هناك قرابة تجمع بين إبراهيم الوردانى، وبين الدكتور ظفيل باشا حسن الورداني نقيب الأطباء عام ١٩٢٤. حيث تلقى “إبراهيم ” علومه الأولى فى المدارس المصرية حتى نال البكالوريا، وتوفى والده فقام بتربيته الدكتور ظيفل باشا وأرسله إلى سويسرا لتلقى علوم الصيدلة ثم ذهب إلى إنجلترا، فقضى بها سنة وعاد إلى مصر فافتتح بها صيدلية فى شارع عابدين، وكان من المتحمسين لمبادئ الحزب الوطنى المناوئ للخديو عباس وقتذاك كما
ارتبط بجمعية مصر الفتاة، وبعد عودته لمصر أسس جمعية سماها “جمعية التضامن الأخوى” التى نص قانونها على أن من ينضم فيها يجب أن يكتب وصيته، ويقال إنه خالط التنظيمات الاناركية أثناء تواجده للدراسة فى سويسرا، و اعتنق مذهبهم.
حضر الوردانى هذا الاجتماع وقد عزم على القصاص من جلاد الشعب الخائن العميل بطرس غالى .
فى الواحدة من ظهر 20 فبراير 1910، خرج بطرس باشا غالى من مكتبه بمجلس النظار ” مجلس الوزراء ” برفقته حسين باشا رشدى وزير الحقانية ( العدل)، وفتحى باشا زغلول وكيلها وعبد الخالق ثروت باشا النائب العمومي، وما إن هم بطرس باشا غالى بدخول سيارة رئاسة الوزراء حتى دوت 6 رصاصات، استقرت ثلاث منها فى رقبة بطرس غالى باشا، ونجح الحرس فى الإمساك بالشاب القاتل، بينما تم نقل بطرس غالى باشا للمستشفى وهناك أجروا له عملية جراحية استغرقت ساعة ونصفا، لكنه فارق الحياة .
حاول الإنجليز الترويج لفكرة أن اغتيال ابراهيم الوردانى لرئيس وزراء مصر بطرس باشا غالى لا يرجع لخلاف سياسيى أو للأسباب التى اشرنا إليها فى الموضوع، إنما الاغتيال تم نتيجة لمناخ التعصب من بعض المسلمين تجاه المسيحيين فى مصر، إلا أن المحامى القبطى ناصف أفندى جنيدى الذى تبرع للدفاع عن إبراهيم الوردانى أمام المحكمة وحضر معه كل التحقيقات قال أمام المحكمة:
- “إننا جميعاً قد ضاقت صدورنا من السياسة المنحازة للإنجليز التى كان يدافع عنها بطرس باشا”.
كان عبد الخالق ثروت شاهدا على وقوع عملية الااغتيال، كما أنه كان النائب العام الذى حقق فى الواقعة، وقد أعلن قرار الاتهام فى 13 مارس 1910، وحملت القضية رقم 14 جنايات عابدين، وتضمنت القائمة 9 أسماء من ضمنها «الورداني»، وفى 21 من نفس الشهر صدر قرارًا بتحويلها إلى قاضى الإحالة بمحكمة مصر الأهلية متولى بك غنيم.
حينها أصدر متولى بك غنيم قرارًا بتبرئة جميع المتهمين باستثناء “الورداني”، والذى تم تحويله إلى محكمة جنايات مصر فى أبريل 1910.
وفى المحكمة قال عبد الخالق ثروت “إن الجريمة المنظورة أمام المحكمة هى جريمة سياسية وليست من الجنايات العادية وأنها (بدعة ابتدعها الوردانى بعد أن كان القطر المصرى طاهرًا منه) ثم طالب بالإعدام للورادنى.
فى 18 مايو 1910 أحالت هيئة المحكمة أوراق المتهم إلى فضيلة المفتى بكرى الصدفي، بعد أن رفضت طلب الدفاع بإحالة «الورداني» إلى لجنة طبية لاختبار قواه العقلية.
حينها رفض المفتى بكرى الصدفي (مفتى الديار المصرية الذى تولى المنصب في الفترة من 10 نوفمبر 1905م إلى 21 ديسمبر 1914م) لأسباب شرعية، أن يصدر فتوى بالمصادقة على الحكم بالإعدام، وأخذ بوجهة نظر الدفاع القائلة باختلال قوى المتهم العقلية وضرورة إحالته إلى لجنة طبية لمراقبته حسب رواية «ثابت».
رد فعل هيئة المحكمة كان مفاجئًا، بعد تجاهلها لرأى فضيلة المفتي، كما رفضت الطعن المقدم من جانب الدفاع على حكمها الصادر بالإعدام.
رحم الله الوردانى الجميل الذى كان يمثل سيف المصريين الذى كسرته الأسرة العلوية بخياناتها
وخلده المصريون الوطنيون فأسموه “غزال البر”، وحين أصدرت الحكومة قرارا يحرم على أى مصرى الاحتفاظ بصورته، وبعد صدور الحكم بإعدامه احتشدت الجماهير الغاضبة معلنة رفضها هذا الحكم الجائر، وكانت ليلة إعدامه ليلة حزينة على كل المصريين، فردد الحشد من الجماهير التى يستقر فى وجدانها البطل الحقيقى
الأغنية وليدة الوعى الصادق والحزن التلقائى والضاربة فى عمق الوجدان
المصرى
: “قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لاحسن غزال البر- أى الوردانى- صابح ماشى”.
كما ارتدت النسوة في الريف عليه ثياب حداد مصنوعة من قماش اسود به تموجات وأسموه حزن الوردانى.
التعليقات مغلقة.