اليوم :العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية في مواجهة الحاضر والمستقبل برؤية مستدامة
اليوم : العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية في مواجهة الحاضر والمستقبل برؤية مستدامة
بقلم الدكتور قاسم المحبشي
شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة على مختلف الأصعدة (الحضارية والثقافية والمدنية)، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة، ووسط تلك الأحداث والمتغيرات العاصفة أخذ العلماء والمفكرون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في الواقع ويدور في عالم جُنَّ جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول . ولما كان العلم بكل مستوياته وتجلياته الابستمولوجية، والسوسيولوجية، يعد الظاهرة الأبرز في العصر، عصر العولمة والعلم والثورة العلمية بامتياز، فقد استقطب العلم جلّ اهتمام الفلاسفة والعلماء وأثار دهشتهم ودفعهم إلى إعادة التأمل والتفكير والتساؤل فيه بوصفه موضوعاً كلياً لعدد واسع من أنساق الابستيمولوجيا المعاصرة (فلسفة العلم، وتاريخ العلم، وسوسيولوجيا العلم، والانثربولوجيا الثقافية، وعلم نفس العلم ، والعلم المقارن، والميثودولوجيا (علم المناهج)، وفلسفة اللغة، والهرمونطيقا، والسبرناتيك، وأخلاقيات العلم. فضلاً عن أنساق المعرفة الجديدة الأخرى ومنها، الدراسات الثقافية والنقد الثقافي والدراسات النسوية في فلسفة العلم وتأنيث العلم، وأدب الخيال العلمي … إلخ.
ما العلم؟ وما منهجه؟ وما تاريخ العلم؟ وكيف يمكن فهم وتفسير بنيته وديناميته وصيرورته؟ وما علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وما مكانة العلوم الإنسانية ووظيفتها وقيمتها وأهميتها ومستقبلها؟ وما هي المؤسسة العلمية؟ ومن هو العالِم؟ وما الأدوار الاجتماعية التي يمارسها العلماء؟ وما هي محددات الجماعة العلمية؟ وكيف يمارس العلماء نشاطهم؟ وما هي أنماط علاقاتهم؟ وما المعايير التي يلتزمونها؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تضعنا في قلب المشكلة التي واجهتها العلوم الإنسانية والاجتماعية ومازالت تواجهها في سياق سوسيولوجيا العلم المعاصرة، بوصفها منظوراً جديداً في بحث ودراسة الخطاب العلمي بما ينطوي عليه من أنساق، وعناصر، وأفعال وتفاعلات، وعلاقات، وممارسات، وأدوار والتزامات، وقيم وقواعد، ومؤثرات، وبنيات، مادية ورمزية، داخلية وخارجية, فالعلم وفق هذا المنظور ليس مجموعة معارف ولا تقنيات وممارسات … إلخ، بل هو مؤسسة بالمعنى الفوكوي للكلمة(نسبة إلى ميشل فوكو) ذلك هو السؤال المشكل الذي نحاول مقاربته هنا.
إذ لو مرة في تاريخ المعرفة الإنسانية تتوحد
العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية والتربوية في مواجهة أزمنة العالم الراهن مع جائحة كورونا كوفيد-١٩ التي مسحت الصفحة
وقد ذهب فيلسوف العلم المعاصر ميشيل بولاني إلى تأكيد الطابع الإنساني العام للمعرفة العلمية،” فصحيح أن العلم الطبيعي يبحث في عالم فيزيقي لا شخصي، إلا أنه ذاته نشاط ذو سمة شخصية، فلا يمكن تتبع نمو المعرفة العلمية إلا كسلسلة من أفعال أشخاص معينين وإنجازاتهم وأحكامهم وكشوفهم وخيالاتهم وحدوسهم، والعلم لا يعمل في فراغ مطلق، بل يفلح أرضاً مهدتها الثقافة السائدة أو تركتها صعيد بلقعاً” كما أن حجم ونوعية المشكلات الإنسانية والاجتماعية التي أفرزتها المتغيرات التاريخية والحضارية العالمية المتسارعة اليوم تستدعي الحاجة الملحة إلى ردم الهوة الشاسعة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، والنظر إلى المشكلات ومواجهتها وبحثها بصيغة تكاملية ورؤية عقلانية نقدية. جائحة فيروس كورونا كوفيد 19 وتداعياتها الإنسانية والاجتماعية ومشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة الأرضية والأوزون، وصدام وحوار الحضارات، ومشاكل الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال العابرة للقارات. ومشاكل الفقر والصحة والمرض، ومشكلة التطرف والإرهاب والعنف، ومشاكل الهويات الطائفية والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية والاندماج، والمخدرات ومشكل الفساد والبطالة و والحركات الاجتماعية والثورات، وقضايا حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بالحقوق المدنية، ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي، والمشكلات الأخلاقية للعلم والثورة البيولوجية ؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية الجديدة والآثار الاجتماعية والأخلاقية فضلا عن المشكلات المستعصية التي تفتك بالمجتمعات العربية والإسلامية منذ زمن طويل ومنها: مشكلة الهوية والحروب الطائقية إذ تعيش مجتمعاتنا العربية اليوم حروب طائفية مستعرة في كل مكان وغير ذلك من المشكلات الحيوية الأخرى. والسؤال هو: ماذا بوسع العلوم الاجتماعية والإنسانية عمله بإزاء تلك القضايا الراهنة فضلا عن التحديات المستقبلية إذ إن استشراف المستقبل والبحث فيه لم يعد اليوم من باب الرجم بالغيب أو التنجيم أو التنبؤ أو التخمين و الظن و الشطح الصوفي، بل غدا اليوم ضرورة حيوية وجودية وإستراتيجية للبقاء والعيش في عالم تعصف به الأحداث و المتغيرات بخطى سريعة الإيقاع. في هذا السياق سوف تكون مقاربتا لموضع بحثنا مزدوجة المعنى؛ إذ هي من جهة دراسة لوضع العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية الراهنة وممكنتها ومن جهة أخرى بحث في الآفاق المستقبلية لها في عالم باتت المعرفة العلمية هي مفتاح تقدمه وفي ظل الحضور المتزايد لخطاب العلوم الإنسانية والاجتماعية على الصعيد العالمي واتساع نطاق انتشارها وتمكينها وتوطينها أكاديميا وثقافيا وإعلاميا في مختلف المجتمعات والبلدان وتخصيبها فكيف يمكن للعلوم الاجتماعية والإنسانية العربية مواجهة تلك التحديات؟ وماذا بوسعها فعله هنا ولان؟ وهذه هي اطروحة الفيلسوف الفرنسي ادغار موران”الذي كتب قبل أيام قائلا:” فأيّ حدثٍ علمي أو اجتماعي أو إنساني لا يمكن قراءتَهُ مفصولاً عن سياقاته التاريخية والاقتصاديّة والسياسيّة والنفسيّة والعقائديّة، وهو ما لم يقم به التعليم المعاصر ولم يعلمنا هذه المواضيع الأساسيّة والعلاقات الجامعة بين الفردي والكلّي، ولعلّ مصدر القلق يتأتّى من الطريقة التي شكّل بها التعليم العقول وفْق التخصّص. إنّنا كبشر وسط هذا العالم كما أنّ العالم هو بيننا، ولذلك يمثّل انْعطافنا من الأنا الفردي إلى الأنا الجمعي إلى الأنا العالمي ضرورة إنسانيّة لا مَهْرب منها، وإصلاح التعليم هو الكفيل برفع تحديات العصر لأنّ الإنسان لا يصير إنساناً إلاّ بالتربيّة” في كتابه ”تربية المستقبل: حدد موران المعارف السبع الضرورية للتربية المستقبلية” الذي يستهّل به الألفية الثالثة، إلى عرض المشكلات التي تجاهلها التعليم، وإلى اقتراح ما يُشبه خارطة طريق تتضمّنُ المبادئ الأساسيّة السبعة التي لا يجب لأيّ منظومة تربويّة مُستقبليّة أن تتجاهلها مع لفت الانتباه إلى ضرورة أن تُراعي تلك المعارف خصوصيات المجتمعات وثقافاتها وقواعدها الأخلاقيّة، بوصف التربية هي قوّة المستقبل وأداة من أدوات التغيير ومواجهة التحديّات. وفيما يلي تلك المبادئ أوردها مختصرة:
- التدريب على استيعاب فكرة ”الخطأ والوهم” فلا توجد حقيقة مطلقة.
- وضع المعرفة في سياقها الخاص والعالمي.
- تعليم الشرط الإنساني.
- التنبيه إلى أنّ الناس يتقاسمون مصيراً كوكبيّاً مُشتركاً.
- التخلّي عن أساطير الحتْميات والأفكار المطلقة.
- تعليم الفهم الإنساني.
- التأكيد على أخلاق للجنس البشري تُراعي (الفرد- المجتمع- النوع.
والخلاصة هي بالتربية والتعليم يمكن أعادة إنتاج المجتمع القديم وتكريسه أو تنميته وتغييره ولا توجد طريقة أخرى غيرها لتنمية المجتمعات؛ تنمية عقلانية رشيدة ومستدامة . تلك هي الفكرة الأساسية في ورقتي البحثية المقدمة إلى المؤتمر الدولي الأول للعلوم الاجتماعية والتربوية قضايا معاصرة برؤية مستدامة للمنتدى العربي الافريقي للتدريب والتنمية.
التعليقات مغلقة.