اليوم عيد الأب “نحن نحبك يا أبي” …قاسم المحبشى
اليوم عيد الأب.. نحن نحبك يا أبي
قاسم المحبشى
يموت المرء حينما يكف الأحياء عن تذكّره!
عشرون عاما مرت على رحيلك إلى عالم البرزخ، نور ورحمة تغشاك في مثواك والدي الحبيب، وما أضيق الحياة وما أوسع الموت، ولكننا لم ننساك أبدا فأنت بيننا في كل لحظة من لحظات حياتنا، أمي الحانية لم تفتر لحظة واحدة عن الحديث عنك، وتفاصيل حياتكما السارة والحزينة منذ طفولتكما، حدثتنا عن وفاة أمك وأنت ما زلت طفلاً صغيرا، وعن حياة يُتْمك القاسية، وعن كفاحك المرير في سُبل العيش الكريم، وعن بدايات تجربتك في ممارسة التجارة في بيئة قاسية، وكيف استطعت أن تشق طريقك بمفردك في عالم التجارة، في زمن الاستعمار الانجليزي، حدثتنا عن القوافل التجارية التي كنت تعود بها من عدن بعد غياب أشهر سيرًا على الأقدام، حدثتنا عن أيام الخوف والقلق الثوري في مطلع سبعينات القرن الماضي، وكيف كنت تنام في الجبل خوفا من الغدر والاعتقال، بسبب تهمة البورجوازية الكبيرة والرجعية والكمبرادورية والتحرير.
وكيف اضطريت للهرب إلى ردفان ركب بن حديد لفتح دكانا هناك، حدثتنا عن شجاعتك الأسطورية في أزمنة الخوف الأيديولوجي الإشتراكي، وكيف استطعت مواجهة العاصفة دون أن تنثني أبدا، حدثتنا عن غضبك العنيف وحنانك اللطيف في أيام الشدة واللين، عن عشقك للأرض والمطر، وعن صلتك بذوي الأرحام والأهل والجيران، وعن صراحتك وصرامتك وحزمك وعن حكمتك وحلمك وعن أشياء وأشياء لا أحد يعرفها في شخصيتك الغامضة حد العمق البسيط حد الوضوح، وحينما استمع إلى أمي وهي تتحدث عنك وأتذكر أيام طفولتي معك اكتشف تلك الجوانب الإنسانية في شخصيتك العظيمة، ما زلت أتذكر كيف كنت تبكي بحرقة مثل الطفل خوفاً علينا من ذئاب البشر بما كنا عليه من سذاجة وبراءة، بعد وفاة ساعدك وقرة عينك أخونا الكبير محضار -رحمة الله عليه- وهو في ريعان الشباب، هذا الموت المفاجئ هو الذي غيّر كل شيء في حياتك وحياة العائلة، مات محضار قبل عرسه بأيام في الثامنة عشر من عمره بعد أن كنت ترى فيك المستقبل كله، حينما مات كنت وإخوتي ما زلنا أطفالاً فجن جنونك عليه، وزاد خوفك عليّ وعلى صالح أخي وما أن رأيتني صبياً حتى أصررت على زواجي، أتذكر حينما اصطحبتني معك إلى معرض السيارات في المعلا دكة لشراء السيارة النسيان الخضراء في عام ١٩٧٢م مازلت صورتها في قرطاسها الشفاف تسطع بالذاكرة، قلت لي يومها هذه سيارتك وحينما يكبر صالح اشتري له سيارة حمراء مثلها..
حكاية ما فتئت أمي ترويها لي على الدوام وخلاصتها، أن أبي كان تاجرا للعسل الردفاني الأصلي، وذات يوم دعاني لحمل دبة العسل من أحد فتيات العائلة التي أثقلها الحمل أخذت عنها دبة اعتقدتها ماءً وبقيت معه أخرى.
حملت دبتي مسرعا إلى البيت، ولم أكن أعرف أنها عسلًا وأول ما وصلت البيت أخذت أسكبها إلى دوح الماء الكائن في أعلى درجات المنزل في الدور الرابع. كان عمري حينها لا يتجاوز السابعة ولا أعرف كيف مر عليّ حادث مثل هذا ولم أتمكن من التمييز بين الماء والعسل الثقيل؟!
إذ وضعت الدبة على حافة الدوح وانتظرت حتى أفرغتها، وذهبت أخبر أمي أطال الله عمرها بالصحة والعافية، كانت أمي ليلتها مشغولة بإعداد وجبة الإفطار الرمضاني، وأعدت القهوة على عجل من ماء الدوح المخلوط بالعسل دون أن تلحظ شيئا مريبا، وفي لحظة الإفطار بالتمر والقهوة قال أبي لأمي:
_الليلة طعم القهوة حالية إيش عملتيها بالسكر؟!
أنكرت أمي وتذوقت القهوة بسرعة فوجدتها بطعم العسل العلب، فأسرعت إلى تجفيف الدوح من الماء والعسل خشية غضب والدي إذ كان رحمة الله عليه حينما يغضب يخيف كل أفراد العائلة رغم أنه حنونا إلى حد لا يوصف، كانت أمي ليلتها ترتعد من شدة الخوف خشية غض أبي الذي تعرفه حينما يغضب، ورغم محاولتها المضنية إخفاء آثار الجريمة بتصفية الماء المخلوط بالعسل من الدوح بسرعة البرق وحملته للبقرة التي شممته وعزفت عن شربه.
إلا أن أبي اكتشف الأمر ببساطة من طعم القهوة..
لم يكن أمام الوالدة من خيار غير الاعتراف بما حصل، فاعترفت لأبي بالواقعة بعد أن اخفتني عن أنظاره!
فكان رده ابتسامة عريضة قائلا:
_عملها قاسم الدوح.. أين هو الآن؟
كنت مختبئا في خلة الغرفة المجاورة فاجأتني أمي تدعوني وقد هدأ روعها..
‘تعال يا ابني والدك يريد’
ككنت اسمع ما يدور بينهما فأحسست بالأمان وذهبت للوالد خجلًا، احتضنني بحنان وقال:
_فدوى رأسك يابني ومن اليوم غيرت اسمك إلى (قاسم الدوح )..
أحببت اسمي الجديد ولم أفاخر به، بل كان مدعاة للخجل ولم ينتشر إلا في دائرة ضيقة مقربة من العائلة، وربما يذكره القليلون اليوم، ذات زمن مضى حاول أحد الأصدقاء الذين يعرفون الحكاية أن يعايرني بإسمي الجديد قائلا: _كنت في طفولتك تأكل السمن العدني، وبودرة اللبن نستلة، وتسكب العسل إلى الدوح يا قاسم الدوح..
فأجبته:
_هكذا هم الأطفال في كل زمان ومكان يأكلون ما يجدونه في متناول أيدهم، سواءً كان سمنًا أو دقيقًا أو عسلًا أو أي شيء رطب..
(مع خالص محبتي للمعني)
وحالي يا عسل حضرمي، ويرحمك الله أبي.
أتذكر الهدايا التي كنت تهديها لنا، بعد عودتك من عدن ومنها مربى الزنجبيل، شمع العسل السدر ، الذي لم أتذوق ألذ منه أبدا.. أتذكر حينما كنت تختبرني فيمَ حققته من دراستي الابتدائية بإعطائي رسالة لأقرأها لك أو تجعلني أحسب بعض المسائل الحسابية البسيطة في الجمع والطرح والقسمة والضرب، أو جعلي أقرأ بعض السور القصيرة من جزء عّم، وها أنا اليوم أدركت أن هذا هو أفضل اختبار لقياس وتقييم المستوى التعليمي عند التلاميذ، كم كنت حكيما أبي.
أتذكر رحلاتي معك إلى عدن وردفان فوق الجمال مع المرحوم صديقك الوفي محمد قاسم مثنى-رحمه الله-، أتذكر الحكايات التي كنت ترويها لنا عن معانات السفر والتقطع في زمن الصراع بين الجبهتين القومية والتحرير، وكيف قاومت المتقطعين من أهل عبدالله في ردفان، بكل بسالة واقتدار لوحدك وبعض أصدقاءك من ردفان لمدة ثلاث أيام، بعد أن أنزلت البضائع من فوق الجمال بسرعة حتى لا تصاب بأذى..
أتذكر حينما اصطحبتنا أنا وصالح أخي الذي يصغرني بثلاث سنوات معك إلى الشيخ عثمان السيلة، وتلك الحادثة التي كادت تودي بحياته وكيف كان فزعك عليه الذي لا ينسى أبدا، ولكن الله قدر ولطف..
ماذا بوسعي أن أتذكره وأقوله عنك يا أبتي الحبيب؟!
كل ما أتذكره عنك هو تلك السيرة العطرة بالكفاح والكرامة والشجاعة والصدق والشهامة والأمانة والاستقامة، وتلك النصائح التي كنت تنصحنا بها أنا وإخوتي ومنها:
‘لا تخافوا إلا من أرحم الرحمين، ولا تفرح بمدح الناس لك، وخير لك أن يحسدك الناس على نجاحك من أن يشفقون عليك لخيبتك! لا تغش أحد ولا تغش نفسك، كنت تقول لي لا تكره أحد ولا تحسد أحدا على ما لديه، لأن الحسد كالنار يحرق صاحبه!
كنت تقول لنا لا تمدحوا أحد من الناس فالمدح نفاق ولا تذموا أحد أو تشمتون بأحد لأن الذم والشتم والشماتة ليس من أخلاق الكرام..
لم أسمعك يوما تشتم أو تشمت أو تحرض ضد أحد من خصومك، أبي العزيز أمي تحبك ونحن نحبك ونتذكرك كل يوم ولن ننساك أبدا.
رحمك الله وغفر لك وعوضك بالجنان..
التعليقات مغلقة.