بائع الخضار بقلم / د. ابراهيم مصري النهر
صوته الآتي من خلف الحقول (عسل يا طماطم) ينبهنا لاقتراب موعد أذان الظهر، كان بائع الخضار شيخا كبيرا، يلف حول رأسه عمامة كبيرة، يضع على عينيه نظارة سميكة، يمتطي حمارا أبيض على جانبيه قفصين كبيرين، تسمع النساء نداءه من بعيد (عسل يا طماطم)؛ يجرين إلى مراقد الدجاج ليجمعن البيض، ويخرجن إليه مبتهجات، ويرجعن بالطماطم والخضار ليزين موائدهن باللون الأخضر.
أمام بيتنا شجرتا توت إحداهما كانت تسمى باسم عمي بائع الخضار هذا، تحتها كانت قيلولته، يضع قفصيه من على ظهر الحمار بمساعدتي ويجلس في ظلها يتناول غداءه؛ لبنا رائبا وخبزا جافا، ثم أحضر له الشاي لأفتح معه مجالا للحديث، حديثه عذب؛ قصص من القرآن الذي يحفظ أجزاء كثيرة منه، وأحيانا يتلو منه آيات بصوته الحسن، أو يحكي لي حكايات عن أيام طفولته وشبابه التي لا تخلو من المتعة وروح المغامرة.
أذهب معه كل يوم لصلاة العصر في مسجد العزبة القريب، ثم أساعده في وضع قفصيه على ظهر حماره، ليعود إلى أهله في نسيم العصاري حتي لا ينهك حماره في حر الظهيرة، وخصوصا إنه كان يقطع مسافة كبيرة، قرابة العشرة كيلو مترات ما بين سهول وأودية ومساحات شاسعة من الصحراء.
صلينا العصر ذات يوم ورجعنا لنجد أن باب الحظيرة قد فُتِح، وخرجت الطيور وفتكت بقفصيه؛ بعثرت ما معه من حبوب في التراب وأفسدت ما بقي معه من ثمار الطماطم والخضار، وقلبت إناء البيض الذي جمعه فكسّرته.
ركضت إلى الطيور أهشها وأجمع بقدر المستطاع ما تبقى من أثر جريمتها الشنعاء، لكن للأسف لم أجد شيئا ما أتلفته، تأثرت جدا لضياع جل ثروته ورأس ماله.
قلت له: لا تحزن يا عمي سأعوضك عما خسرت.. وذهبت لأحضر له ما ادخرته من مصروف المدرسة.
قال لي بحكمته وخبرة السنين: يا بني لا تقبل العوض من أحد ولا تطلب العوض إلا من الله، ولعلها رحمة، وقدر أخف من قدر.
-لم أفهم مقصدك يا عمي.
-تخيل لو أن الحمار قد تعثر بي، أو أن كلبا قد خرج عليّ فجأة في الطريق؛ ففزع الحمار ووقعت ووقع القفصين، ألم تكن النتيجة أنه ربما كسرت ساقي أو ذراعي، وتكسر كل ما معي، وربما كسرت ساق الحمار أيضا؟
-بلى يا عمي.
-إذن، قدر أخف من قدر، فالحمد لله، وهكذا المؤمن في كل أحواله مثاب.
وهذا ما تعلمته من مجالسة كبار السن؛ الحكمة، وفلسفة الحياة، والنظر لمجريات الأمور بمنظور آخر، يجعلك ترى ما في رحم النقمة من نعمة وما يحجبه ضباب المحنة من منحة.
رحمك الله عمي بائع الخضار وغفر ذنبك وجعل قبرك روضة من رياض الجنة.
التعليقات مغلقة.