بركان بقلم.
صُرَاخ الولد يلاحقني:
انزل.
هذا الصبي جعلني أنتفض أثناء جُلُوسِي بالمقهى بعدَ صلاة الجمعة،رجال الأمن يتمركزون أمام الرصيف ، يتراصون جِوَارَ ناقلاتهم ،والتي تشبه السجون المتحركة ،تتراصّ الطَاوِلَاتُ الخشبية جِوَارَ باب المسجد،يقعُد فوقها الكثيرون بأردِيتهم المَدَنِيّة، يتهامسون،العصى الطويلة والخـُوْذات والدّروع بيد الجُنود،مَيْدَان الدقي كان فارغـًا ، و لا يتعدَّى عدد الجالسين بالمقهى أصابع اليد الواحدة.
وفجأةعشرات الطلاب يتجمعون ، دقائق معدودة ويتردد الشِّعار:
كرامة.. حرية .. عدالة اجتماعية.
يتكاثر العدد بصورة سريعة،وكأنهم رمال تَذْرُوها الرِّياح من شتى الرّبُوعِ ، فتتكوم فى مَيْدَان الدقى،أضحى العشرات مئاتٍ،يشيرون إلى النوافذ مرددين:
انزل .. انزل .. انزل ..
ينزلق الأولاد سالكين شارع سليمان جوهر، أترقب المشهد متأملا:
ما الذي يدفع هؤلاءِ الشبابَ لهذه الجُرْأَة؟
ياعم ساعة وينفض المولد.
أنغَمِس فى التدخين وارْتِشَاف القَهْوَة المُرَّة،يُقلِّبُني الفِكْر ،ويقطـُفني (الصَّبَّار)، أنتبه على صَوْت النّادل ،ينصح الرّوَّاد،يطلب منهم ، ويحذرهم من مُجَارَاةِ عَبَث الصبيان، الجالس على الطاوِلَة المواجهة يسأل:
وماذا بعد المظاهرات؟
أرد وكأننى أتلو ورقة مفرودة أمام ناظري:
ربما يثور الناس.
يعقب ساخرًا:
عشم إبليس فى الجنة.
مجموعة أخرى من الشباب يظهرون فى مجال الرؤية،يهتِفون:
يسقط النظام ..
أُحِثّ النادل للإسراع فى تبديل حجر المعسل المتفحِّم،تتسلل السخونة إلى وجهي:
لا مفر من النهوض واتباع هؤلاء الأولاد .
أسراب الشباب تتزايد ،ألْحَق بهم ،الهُتَاف يشقّ عَنَان السماء:
حرية .. حرية .. حرية.
لاأشعر ببدني؛فى الزحام تَتِيْهُ معالم الجسد ،البعض يتلكأ فى سيره ، وكأن أقدامَهم التصقت بالأرض،التحذيرات تنطلق:
كمين عند كوبري الجلاء.
أصيح دون إرادة مني:
لا مجالَ للتراجع.
الزَّحْف إلى الأمام مُرْتَبِك،ها هو كوبري الجلاء يظهر من بعيد،سيارتان للأمن تغلقانه، تقفان بالطول ،التعامل مع الجنود على أشُدِّه،مجموعات تنحرِف يمينـًا ويسارًا ، ومجموعات تهاجم غير مُبالِيَة بالعِصِي والخـُوذات، البشر يتدفقون كالسَّيْل المُنْهَمِر؛نساء ورجال كثيرون ينضمون،ألمح أنَاسًا يتمكنون من كسر هذا الطـَّوْق الأمني،الوقت يمر ثقيلًا ما بين تقدم وتأخر ومُرُوق.
همَّة الشباب وأذرع الفتيان تكسر الحائط البشري،الجنود يصرخون وأمارات الهَلَع تكسو نبراتهم:
أوامر.. “ما لناش ذنب”.
الأولاد المندفعون يُزيحون السيارات ليُفتحَ الطريق،نتدفق تدريجيًا،نتقدم تارة،ونتأخر الأخرى،نلمِس كوبرى قصر النيل،نتراجع إلى كوبرى الجلاء، التدفق الهَادِر لا يُعِيقـُه أحد.
أنحرِف إلى شارع أم كلثوم ، أبخرة الغاز تتسرب إلى الرئتين، تتشرب الخلايا .
أكاد أختنق، لا.. بل أختنق فعلًا!
عيناي تفقدان القدرة على الرؤية،تحترقان كورقة زرع غير يابسة،يحترق جزء ويبقى الآخر،أعدو دون إدراك للوِجْهَة،أصطدم بالبشر، أطير خلف الدفوع إلى الحمامات،الطرقة غارقة بالمياه،دون رَوِيَّة أطس وجهي بالمياه،نار حقيقية تشتعل بوجهي،خَشِيْتُ تفحّمَ جسدي كله، ولكن -الآن- لا وقت للتأمل فالمهم هو الاعتقاد فى صدق ما تفعل:
سنوات طويلة الكلاب تعوي والقافلة تسير .
لَفَظَكَ العُمْر تحت مظلة المتاح.
تاهت خُطاك في الصحراء القاحلة؛لا زادَ ولا زواد ،بل عطش وجُوع وشمس حارقة ، أسفل الرمال ثعابين وحيات وعقارب ،وفى السماء العقبان والنسور،سراب وتِيه.
هَرَجٌ ومَرَجٌ وزيطة ومن خلف غلالة الاكْتِوَاء تظهر ضبابية صور الجنود:
يا مصيبة سوداء أتم أسرُنا؟
أَدْعَك عيني بيد جافة،ها هي درجة الوضوح تزداد درجة أو درجتين،يقسمون أنهم غير تابعين للأمن المركزيّ ،وأنهم يؤدون الخدمة.
أنحن في نادي الشرطة؟
أنهرب منهم إليهم؟!
الموت كأس مذاقه حُلْو.
ولكن ربنا سلم، فالظاهر أن كل فرقة مشغولة بهمِّها،ما أكثرَ الشباب المُخْتَنِق،وجدت من يُطبِّب بعضهم،يغسل الوجوه بالمياه الغازية،يجففها جيدًا،شظايا مطاطية تفترش بعض الوجوه ،لن يفيد البقاء أكثر من ذلك،نغادر متجهين إلى كوبري قصر النيل ، المصابون مترامون على الرصيف ، سيارات الإسعاف ترفض نقلهم ،أُلِحّ على المُسْعِف:
أعَدِمْتَ الإنسانية؟!
يجيبُنى ببرود :
ليست لدى أوامر،والمستشفيات لا تعمل.
همهمات الفَتْك بالمسعف تزوم،يصْعَد سيارته هاربًا من الموقف ،يحترِقُ الشجرُ بحديقة الخالدين وبمُتْحَف محمود مختار، مدرعتان تزحفان،صفيرهما الممتدان يؤرقان الآذان، تزخ الطلقات المطاطية كالأمطار، زخم الناس المتزايد يُرْغِمُ المدرعتين على الانحراف ، يَصْدُمان ويَدْهَسانِ عشرات الأشخاص، التوجعات تطغى على الهَدِير،ما بين كَرٍّ وفَرٍّ يُرْتَسَمُ المشهد،أهينم:
المدد يا الله.
الكوبري يضيق ، أضحت الرؤية خارجَ مُقام النفس مستحيلة ،أصيح:
لماذا الخيانة؟ ترفُلُون بصُحبة الأيادى الخانقة ، أترغبون الدولار؟
شَظيَة مطاطية تُفِيقنى من هَذَيَانِى، يُؤَذَّنُ للمغرب ،لم نتجاوز ثلثي مساحة الكوبرى، الصِّرَاع على أشُدِّه ،اللجوء إلى السماء يُعزِّزُ العزم،نصْطَفّ للصلاة،المدافع تُطلِقُ حِمَمَ المياه،لا يمكننا الخروج من الصلاة،رَذَاذ المياه المنقَذِف كحُصُوات الزلط المندفعة من فـُوَّهَات البنادِق،القنابل تتساقط على صفوف المصلين،تتماسك الصفوف أكثر، ننتهى ، الإصابات بسيطة،وكأن السماء فَرَدَتْ دروعَها فوق رؤوسنا،صيحات الله أكبر ترجّ الأقدام، اندفعنا وكأن الأرض تُطْوَى،ها نحن أصبحنا بنهاية الكوبري، امتلأ عن آخره بالزاحفين، لا يَفصِلنا عن ميدان التحرير سوى خُطْوات قليلة،الأصوات تجوب الآفاق.
لا فِكاك من المعمعة ، تنفجر الأجساد ، تشُعّ العيون بالانتقام،الرُّعب والفَزَع يُفَتّتَان معدات الصَّلَف، يتراجعون ، يفلِتُون بجلودهم من جحيم الغضب،نتدفق إلى الميدان،يفرّون مُخلِّفِين معدات القتل.
تنشَطِرُ قنابلُ البشر الذَّريَّة، لم يهدأ الناس ،بقايا قوات الشرطة تُشعِل النيران فى السيارات المنثورة هنا وهناك،المتظاهرون يحرِقون كل سيارات الشرطة الباقية.
فى خِضَمّ المشهد الهائل أقفز فى شتى الاتجاهات،لا أبتغي وِجْهَة بعينِهَا، فما أعظمَ الظفر بعد المرارات ، تشتعل النيران فى مقر الحزب ألسنة الّلهب تلتهم مركز حقوق الإنسان،أعدو باتجاه الحرائق،تتصاعد النيران إلى الطابق الثانى والثالث وهكذا.
يقتحَمُ الأولادُ الأمكِنة الجاثمة فوق كَوَاهِلِنَا ،يحمِلُون أكياس قمصان لم تمسسْها يدٌ ،وشاشات كمبيوتر لم تُفَضّ بكارَتِها ،نسمع صيحات الشباب :
إنهم يسرقون المُتْحَف.
أهْرَع إلى المُتْحَف،أتراص كدرعٍ من الدم واللحم،تنشُبُ المطاردات بيني وبين متسلقي الأسوار، يصرخ شخص:
إنهم يريدون السَّطوَ على ذاكرتنا.
كاد جسدى أن يتفسخ أعضاؤه ،يُحِيط بى الوشيش،أركُلُ وجهي بقبْضَة يدى ناصحًا:
تحملْ .
تتزايد الحشود،يُعلِن الجميع التوحد،تتشبث الأيادى بالأسوار؛ نيران وأدخنة وقُدُود متحفِّزة.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.