برنامج قصة حياة: غريب …تأليف و أداء و إخراج حسين الجندي
نص القصة القصيرة “غريب”
استيقظ الجميع على رسالة ملصقة بحائط الصالة جاء فيها:
السلام عليكم..
فكرت كثيرا قبل أن أكتب هذه الرسالة..
لكني توصلت في النهاية إلى ضرورة أن أكتبها..
تركتكم وقلبي يتقطع..
تركتكم وأنتم أحب الناس إلى قلبي..
معكم
كنت أشعر بالدفء والسعادة والونس..
لكني لاحظت في الفترة الأخيرة أنني أصبحت عبئا عليكم، لا أحد يرغب في وجودي، عندما أتواجد في مكان تخرجون منه، عندما أتكلم تصمتون، ليس احتراما لكلامي بل ضجرا وتبرما، لا أسمع ضحكاتكم إلا وأنا بعيد عنكم فإذا أردت مشاركتكم تنصرفون..
نصائحي كلها لكم مصدر إزعاج ورفض..
أشعر بأني وسطكم مرفوض..
ربما أكون أنا السبب..
حاولت كثيرا التغيير
ولكن ماذا أفعل وهذه شخصيتي وهذا أسلوبي..
أنا أعرف أني قسيت عليكم وسببت لكم الحزن والغم ولكن أعدكم بأني سأرحل بلا رجعة، سأذهب إلى مكان أجد فيه الراحة..
لا لي بل لكم!
عندما تقرؤون رسالتي لا تفكرون فيَّ بعدها أبدا، لقد أوصيت لكل واحد منكم بنصيبه من تركتي، أعلم أنها ليست كبيرة ولكنها كافية أن تجعلكم تعيشون في ستر..
عيشوا حياتكم بلا منغصات، ربما لم أفهمكم وربما لم تفهموني..
انسوني إلى الأبد،
أنا على يقين بأنكم تستطيعون، أما أنا فلا..
والسلام..
فرغوا من الرسالة ومع آخر حرف فيها تساقطت دموعهم ووقفوا مذهولين، لا يصدقون ما قرأوه..
انهارت ابنته وجلست على ركبتيها وقد أخذت الرسالة في حضنها وأغرقتها بدموعها وصاحت:
(لا يا بابا أنا بحبك،جايز معرفتش أعبر لك عن حبي، لكن أكيد مش هعرف أعيش من غيرك..)
ثم أجهشت بالبكاء الحار..
أما ولداه فقد أطرقا برأسيهما وهما يشعران بفقد كبير، لم يدركا أهمية والدهما ربما إلا في هذه اللحظة..
أما هي فلم تقدر رجلاها على حملها فجلست دافنة وجهها بين يديها وشريط ذكريات حياتها معه والذي تجاوز عامه العشرين يمر أمامها في لحظات..
العجيب..
أنها لم تر وقتها إلا لحظات السعادة ومواقف الحنان؛ فانفطر قلبها ورفعت يديها عن وجهها وصرخت فيهم:
(الراجل ده عشت معاه على الحلوة والمرة، صحيح ساعات كان شديد وقاسي، بس حقيقي حقيقي كان طيب وحُنَيِّن..
مش ممكن أبدا نسيبه يروح، احنا من غيره ولا حاجة..)
وجففت دموعها ونظرت إليهم وهي تحاول أن تبدو متماسكة وأردفت:
( لازم نلاقيه.. ولو هوه مش عايزنا احنا لا يمكن نسيبه..)
تحرك الجميع وبدأت رحلة البحث..
مرت أيام وأسابيع بلا جدوى..
لا وجود له حيا أو ميتا!
أما هو فقد كان معهم في كل لحظة!
يراهم ولا يرونه، يسمعهم ولا يسمعونه..
لقد استفاد من عمله كمهندس اتصالات وزرع البيت كله بكاميرات متصلة بالإنترنت فنقلت إليه أدق تفاصيل حياتهم..
شخص واحد فقط كان على علم بخطته..
هو…..
صديقه!
-خلاص بقى مش عاوز ترجع؟!
قالها له وهو ينظر في عينيه
-رد عليه بتحدٍ:
لا لسة ..
-ليه؟ إنت شوفت وسمعت بنفسك قد إيه همه زعلانين عليك.. حرام عليك يا أخي ؟!
لا لازم أكمل للنهاية!
-نهاية؟! نهاية إيه؟
الموت..
موت؟
موت إيه؟
موت مين؟!
احنا متفقناش على كده..
كنت عاوز تعرف معزتك عندهم وتعرفهم قيمتك،ومتهيألي إنت عرفت!
مش شايفهم هيموتوا من غيرك؟!
-أيوة
أنا عاوز أشوف هيعملوا إيه لما يعرفوا إني مت مش مجرد واحد مفقود وعندهم أمل إنه هيرجع..
-وده هتعمله إزاي ؟!
نظر إلى عينيه نظرات ذات مغزى وأطلعه على الخطة..
انطفأ مصباح نجفة الصالة الرئيسي فقام الابن الأكبر بتغييره فوجد بجواره إحدى كاميرات المراقبة التي زرعها الأب، هاله ما رأى وبذكائه الفطري أخذ يربط دور والده في وجود تلك الكاميرا..
لم يظهر أي ردة فعل وترك الكاميرا في مكانها..
ثم ذهب إلى متخصص في كاميرات المراقبة وأخبره بأن صديقه يخشى من أن أحدهم قد دس له كاميرات في بيته وطلب منه كيف يستطيع اكتشافها والدخول عليها من خلال الإنترنت،فأخبره بالأمر..
قبل أن يعود إلى المنزل اتصل بأمه وأخيه وأخته وطلب منهم أن يقابلوه جميعا خارج المنزل،
وبعدها اتفق الجميع على خطة إرجاع الأب..
تعمدوا أن يُظْهِروا عدم اكتراثهم بغياب الأب وأنهم تعودوا على عدم وجوده بل وممارسة حياتهم بطريقة عادية، وأخذ كل منهم يتحدث مع الآخر عن طريقة أخذ حقه في وصية أبيهم، كل هذا فعلوه وهم على يقين بأنه يراهم ويسمعهم..
بالغوا للغاية في ذلك؛لقد أرادوا استفزازه بقوة حتى يعود..
تابع الأب كل هذا وهو يتحرق كمدا ويتقطع غيظا،وأمسك بقلبه الذي يكاد أن يتوقف..
وصل الصديق إلى الأب ليبدأ معه في تنفيذ خطة ادعاء الموت..
برغم عدم اقتناعه بها لكنه أراد أن يسير معه إلى آخر مراده..
وجده نائما على السرير..
-ههه..
أنت بدأت؟!
مش هتستنى لغاية ماأتصل بهم؟
بس سيبك..
أنت إيه..
ممثل جامد عامل شخصية الميت وكأنك مت قبل كده!
ثم اتصل بهم وحاول أن يبدو عليه التأثر الشديد لفقد صديقه العزيز..
دقائق وأحاطوا بسريره.. العجيب
أن صديقه لم ير على وجوههم أي تأثر بل على العكس وجدهم وكأنهم في نزهة..
-لكن يا عمو حرام عليك والله تسمع كلام بابا وتوافقه في اللي عمله..
قالها الابن الأكبر وعلى وجهه ابتسامة مرحة وهو ينظر لصديق والده..
قبل أن ينطق الصديق بكلمة وجد الزوجة تداعب وجه زوجها بيديها وتستحثه قائلة:
قوم بقى خلاص لعبتك انكشفت..
وجدت وجهه باردا للغاية برود الأموات، بدأ القلق يتسرب إلى قلبها، لم تنتظر ابنته، جلست فوق صدره كما تعودت أن توقظه من نومه وأخذت تقرص أذنيه بقوة، وانتظرت أن ينهض مزبدا مرغيا وهو يعلن اللحظة، لكنه لم يستجب!
قاموا جميعا بهزه..
ولكنه!
آثر أن يظل في غربته.
استمع للقصة الآن
برنامج قصة حياة: غريب …تأليف و أداء و إخراج حسين الجندي
التعليقات مغلقة.