برنامج قصة حياة للأديب حسين الجندي : مع نفسي
مع نَفْسي بسن قلم حسين الجندي
تعوَّد على المشي بمفرده ليلا ليتنسَّم الهواء النقي وليبتعد عن ضوضاء الأسرة..
كان يتمنى أن يمتلك طاقية الإخفاء لا ليسْتَرق بها السمع أو ليشاهد العورات أو- لا سمح الله – يأخذ ما ليس له،
ولكن فقط يريدها ليصير على حريته…
يريد المشي وسط الناس ولا يضايقه أحد..
منتهى سعادته أن يتحرَّر من التَّكَلُّف أو تَصَنُّع الاهتمام بأحد..
لن يتحمل أن يراه الناس على غير طبيعته المعتادة،
لكنه أولا وأخيرا بشر..
قفزت في ذهنه فكرة استملحها للغاية،
أن يمارس هوايته المُحَبَّبة في مدينة غريبة عنه لا يعرفه فيها أحد..
يأكل، يشرب، يلهو، بل، يتْفَه..
يفعل كل ما يحلو له بدون ضغوطات..
خرج من المسجد المطل على الطريق العمومي بعد العشاء؛
فوجد حافلة عامة تتجه لعاصمة المحافظة،
لم يتوانِ..
دلف داخلها بدون تردد،
نزل في آخر خط سير الرحلة،
وأخذ جولة حرة داخل المدينة،
فتجول في السوق التجاري المكتظ بالناس،
لم يشترِ شيئا،
فقط هو سعيد بالتجوال الحر،
أحس بالجوع،
لم يُفَوِّت الفرصة،
دخل مطعما شعبيا شهيرا لساندوتشات الفول والطعمية وطلب بعضا منها مع بعض البصل الشرائح والمخللات،
وأخذ يتناولها بِنَهَم شديد،
وقوفا كمعظم الرواد..
كان مذاقها في فمه ألذ من اللحم بكل أنواعه..
كم تناول الطعام خارج بيته في أفخر المطاعم والفنادق ولكنه لم يستشعر أبدا هذه السعادة التي تغمره الآن!
بعد فراغه من الأكل،
وجد محل عصير قصب وتمر هندي وسوبيا بجوار المطعم فلم يُكَذِّب خبرا وتناول كوبا كبيرا من عصير القصب الطازج وارتشفه بتلذذ،
ثم عَرَّج على مقلة لب وسوداني واشترى بعضا منها وأخذه وواصل رحلته..
وبعد مسافة قصيرة وجد جزيرة وسطى أقرب إلى الحديقة العامة،
فاتجه إليها ليستريح..
خلع حذاءه وجوربه وشمَّر بنطاله وجلس على النجيلة وبدأ في (قزقزة اللب)..
رن جرس تليفونه وكان الطالب زوجته لعلها أصيبت بالقلق عليه..
لم يرد فأعادت الطلب،فلم يرد أيضا وقبل أن تطلبه مرة ثالثة أغلق الهاتف تماما..
كان يريد ألَّا يقطع عليه تلك اللحظات مع النفس أي إنسان مهما كان!
شعر بتنميل خفيف في أطرافه وخِدْر يتوغَّل في جسده..
أخذ يتثاءب مرات متتابعة،
فرَدَ جسده على الأرض وساعده الهواء اللطيف على نسيان من هو وأين هو وماذا يفعل؟
فقط..
كان مستمتعا باللحظة ويعيشها بكل كيانه..
وسرعان ما غطَّ في نوم عميق..
لم يشعر إلا بيد غليظة تهزه هزا،
انتفض واقفا وأخذ يُحَمْلِق فيمن يهزه،
وجد شرطيا غليظ الوجه والقلب ينهره ويطلب منه أن يذهب إلى بيته بدعوى أن المكان ليس للنوم..
استجاب ونفض عن ملابسه آثار النجيلة وبعض التراب..
وبتلقائية رفع يده اليسرى ليعرف من ساعته الوقت ولكنه لم يجد ساعته الفاخرة ماركة الرادو،
بحث عنها ولكنه لم يجدها!!!
أدخل يده في جيبه ليخرج هاتف الآيفون الثمين فلم يجده هو الآخر!!!
بحث عنه فلم يجد له أثرا!
هنا أدرك الحقيقة المؤلمة،
لقد تعرض للسرقة..
ولم يتبق سوى محفظة نقوده وقبل أن يضع يده على جيبه الخلفي وجدها أمامه مُلْقاه وجميع مافيها مبعثرا..
أخذ يُلَمْلِم أوراقه وكروته وبالطبع لم يجد فيها أي نقود؛
فالحرامي استولى منها على المفيد..
استغل نومه وقام بِنَهْبِه وولَّى هاربا بعد أن تمنَّى أن يأتي أمثال هذا الزبون ( السّقع ) كل يوم،
أخذ يُتَمِّم على أعضائه فلم يتبقَ له سواها..
حمد الله على أنه سليم..
ابتسم ابتسامة صفراء باهتة وركب حافلة العودة وقد همس في أذن المُحَصِّل راجيه أن يعفيه من التذكرة..
وصل إلى بيته ودخل في نوبة ضحك هستيرية،
تعجَّب الجميع من حالته المُزْرية،
إلا زوجته؛
فقد نظرت إليه نظرة شامتة ذات مغزى!
التعليقات مغلقة.