بوليكوشكا ” قصة للكاتب الروسي ليو تولستوي ” ترجمة الأديب : خالد العجماوي ” بتصرف “
مقدمة:
كتبت هذه القصة في عام ١٨٦١، وقد تم نشرها لأول مرة بعد عامين من كتابتها. وقد ترجمها إلى الإنجليزية الكاتب أدولفوس ناريكوف، ووضعها في مجموعة عنونها The old devil and the three small devils الشيطان الكبير والثلاثة الصغار . ولقد قمت بترجمتها من ترجمة أدولفوس، مع كثير من التصرف والصياغة.
كان (بوليشكي) فقيرا معدما، يعمل لدى أرملة ثرية لرجل من طبقة النبلاء، وكان يسكن وأسرته بيتا صغيرا بناه له ذلك النبيل؛ حجرة بسيطة، بنيت حوائطها من الحجر، وقد قبع في وسطها موقد قديم. وفي إحدى أركانها فراش بسيط، فوقه مخدة ولحاف، وهناك سرير لطفل، وطاولة بثلاثة أرجل، يضعون فوقها الطعام، أو تقوم زوجته فتغسل فوقها ثيابهم. وكانت الحجرة مزدحمة عن آخرها تقريبا، حيث يقطنها سبعة أفراد، وبعض الدجاجات، علاوة على عجل صغير تركوه يهيم بينهم. فكانوا يستخدمون ذاك الموقد في الوسط فينامون عليه حينا، أو يجعلوه طاولة في أحيان أخرى.
وكانت (أكولينا) زوجته تقوم بغسل الثياب، كما تقوم بالخياطة والطبخ، وكثيرا ما وجدت وقتا فمارست ما تفضله النساء من مناوشة جاراتها، أو مجالستهن من أجل النميمة والسمر.
وكانت منحة الأرملة النبيلة سخية حتى أنها لتكفي طعام كل العائلة؛ ووقود المدفأة، وعلف الدجاج، وحتى طعام العجل والغنمات. بينما انحصر عمل (بوليكوشكا) أو (بوليكي) حول تنظيف الإسطبل والخيول، وإطعامهم وتقليم حوافرهم، بل وصناعة العقاقير، وصنوف الدواء لأجل تلك الخيول والحيوانات. ورغم ما كان لدى بوليكوشكا من أسباب الراحة والعيش السعيد، وسط زوجة وعائلة، وراتب شهري سخي، إلا أن غيامات الحزن قد عرفت طريقها نحو سماء حياته، فأغرقته في ركام من النكد والهم.
والسر هو ماضي الأيام عند ذلك الرجل التعيس؛ إذ كان يعمل في صباه لدى رجل محتال، يسكن في قرية مجاورة، عُرف أمر احتياله وسرقاته، فنفي إلى صحراء سيبيريا البعيدة. وأما (بوليكوشكا) وبينما كان لايزال صبيا يافعا فإنه قد تعلم على يدي ذلك المحتال صنوف الشر، ولأنه كان يتيم الأبوين، وليس له ملاذ ولا معلم سواه، فقد تعلم كيف تكون السرقة وكيف يتقن فنون النصب، ولم يجد من يعلمه معاني الخير والنبل، وسبل الكرامة والشرف. كما عرف بوليكي لذة الخمر فأدمن على شرابها شابا يافعا صغيرا، حتى أنه لربما يقايض ما يسرقه من أقفال، وأساور وغالي المتاع مقابل زجاجة من خمر معتق. وعرف الناس أمر (بوليكي) من حب للسرقة وإدمان للخمر، فكان دوما محل الشكوك والريبة، وحدث أن أمسكه أحد الفلاحين وهو يسرقه فأوسعه سبا وضربا، ووشى به عند سيدته الأرملة النبيلة كي تنزل عليه ما يستحق من عقابها الوبيل. ولطالما وبخته سيدته وهددته، محاولة منها كي تثنيه عن ميله الشرير ذاك، حتى أن زوجته (أكولينا) كانت تقضي لياليها تبكي متحسرة لأجل سقطاته ونزواته العديدة، وهي ترى زوجها ينحدر إلى درك السفالة والانحطاط.
والحق أن روح صاحبنا (بوليكي) لم تكن راضية لما وصلت إليه من قذر الشرور، بل وكانت تتوق إلى أن تتحرر من أدرانها ودناءتها. فكان يمني نفسه بذلك اليوم الذي ينعتق فيه من حبه للخمر، حتى أنه صرخ يوما كطفل محموم يرتعد، وهو ينظر إلى السماء قائلا: “ماذا أفعل يا الله! فلتمزقني يا رب إذن إربا إن أنا عدت إلى هذه المشارب الدنية!”
ولكن نفسه الأمارة كانت ضعيفة، فكان سرعان ما تنحدر به نزواته فيغيب عن بيته أياما يعربد ويسكر.
وحدث في إحدى الأيام أن رأى بوليكوشكا لدى سيدته الثرية ساعة ثمينة، وقد بدت عتيقة الطراز، وضعتها في مكتب لها كتحفة من التحف. فاشتهت نفسه المريضة أن يسرقها لنفسه، ثم إنه قد ذهب بها إلى المدينة فباعها من فوره دون أي عناء. ولكن حظه كان سيئا وتعيسا، إذ كان شاريها قريب لأحد العاملين في المحكمة الكبيرة، فحكى له أمر الساعة وكيف ابتاعها من رجل غريب. ولم يمر وقت كثير حتى اكتُشف أمر (بوليكوشكا) وقد واجهته سيدته بفعلته الشنعاء، فانهار أمامها وبكى، واعترف بسوء ما اقترف. وجثا على ركبتيه كي تصفح وتغفر. ولم يكن من السيدة النبيلة سوى أن أظهرت له رقة في القلب والروح، فكلمته عن الحلال والحرام، وأوصته أن ينتبه لنفسه ولعائلته الكبيرة التي أنعم الله بها عليه، والتي إن ظل على حاله بددها وأساء إليها. فما كان من (بوليكوشكا) إلا أن هدر كالأطفال، وهو يقول بصوت متهدج منكسر من أثر البكاء:” أعدك يا سيدتي ألا أعود إلى نزواتي وسرقاتي ما حييت. ولئن فعلت فلتخسف بي الأرض، ولتحرقني السماء بوابل من نار” ورجع إلى بيته وهو يهتز من أثر الانفعال، يكرر على نفسه قسمه ألا يعود إلى أدران ماضيه.
والحق أن (بوليكوشكا ) لم يحنث، ولم يعد إلى أفعال الدناءة والخسة تلك، بل وظل يسمو في سبل الشرف والنبل، حتى يتطهر من ماضيه القميء. ولكنه وبالرغم من شرفه وعفته، لم يسلم من نظرات الناس أو كلامهم، فكان دوما موضعا للشك، موطئا للنميمة وربما السخرية.
وحدث في يوم أن سأل مسئول في الجيش عن (بوليكوشكا)، إذ كانت العادة أن يعاقب السارقين والمارقين بتجنيدهم في صفوف الجند، علهم يتعلمون معنى الرجولة والشرف، ولكن سيدته النبيلة أبت أن يذهب (بوليكي) إلى ذلك المصير القاسي، وقد رأت أنه قد صدق في وعده حتى يومه ذاك.
يتبع.
التعليقات مغلقة.