“بين الكوب والإناء”…
نسمة أبو النصر
“بين الكوب والإناء”
سطعت شمسه أخيرًا في ذلك اليوم المنتظر، لقد تجمعت كل الامنيات وباتت الأحلام السعيدة حليفته في تلك اللحظات، ها هو عاد ليطرق أبواب الحنين ويشق سراديب الاغتراب، عاد ليهمس إلى عالمه القديم “أنا قادم… أنا قادم”.
اشتعلت سنواته المنصرمة لتعيده إلى حيث كان يلعب ويلهو ويضحك ويخاف ويختبئ، نظر بداخله إلى عينيّ أمه التي كانت تركض خلفه حينما كان يسكب الحليب؛ فيقف إذا أضناه الهروب ليطلب منها العفو بطريقةٍ غريبة وهو يردد “أستريح بعض الوقت يا أمي…”؛ حينها كانت تقف ضاحكة وكأنه كان يمازحها في وقت الراحة؛ فتنسى ما كان منه قبل قليل.
قالها كثيرًا خلال سنوات غيابه “أستريح بعض الوقت يا أمي…”، ولكنه لم يجدها لتضحك وتعانقه وسط تلك الجدران المظلمة، وها هو عائد إلى ذراعيها ليمتص كل ما فاته من الأمان، لقد كان يعبث في قلبه ليمسك بقعة النور التي هجرته لأعوامٍ طوال.
هناك وقف بجوار بقرته كي تشرب فيحمل بعدها ذاك الإناء بعد أن يجف؛ فيأخذه لينظفه ثم يعيده وقد ملأه بالماء مرةً أخرى، كان ينحني وكأنه أصيب بتقوس الظهر أثناء عودته بالإناء المملوء بالماء؛ ثم يتركه بقوة تجعل وجهه ينغمس بالماء الذي اندفع إلى الخارج بعد أن طردته قوة الوضع، حينها كان يتأفف صارخًا: “كل مرة… كل مرة…”.
وارتسمت البسمة على وجهه حينما رأى أباه قد أتى ليقول له مازحًا: “كل مرة يهزمك الإناء لأنك تستخدم نفس الأسلوب…”، كان يمضي وقد انتفخ من شدة الغيظ، ربما أخطأ مع الإناء آنذاك ولم يعترف، ولكنه أُجبر على الاعتراف دون أن يُخطئ، وها هو عائد اليوم ليستعيد حياته المسلوبة داخل تلك الجدران البعيدة جدًا عن وطنه.
لقد مرَّت الأعوام ثقيلة، كان يصارع معها سكرات الموت في كل لحظةٍ، ولكنه ما زال يتنفس باحثًا عن قلبه المكلوم، تنهَّد بلهفةٍ موجعة متسائلًا في حيرة: “أعوام غير محسوبة من العمر؛ فهل سألحق بما تبقى؟!”.
بعد خمسة عشر عامًا من اللا شيء إلا الشعور بالعذاب وصل بلدته التي لم يعرفها إلا من اسمها، وأخيرًا تمكن من الوصول إلى مكان بيته الذي تغيَّر وتبدَّل وتبدَّد كأنه بيت آخر في عالمٍ آخر، همس إلى نفسه: “ربما أخطأت العنوان”.
لم يكن يتخيل أن الخراب الذي اقتحمه سيصل إلى حدود داره، وقف مفزوعًا يتمتم: “لا… هذا ليس بيتي”، ولكن ما وجده في استقباله أكد له أنه وطنه الغائب المهزوم، لقد كان إناء الماء وكوب الحليب الذي كان يسكبه متعمدًا في انتظاره عند باب داره، احتضنه ابن عمه قائلًا: “طال الغياب، وذهب الأحباب، وتركت لك أمك هذا الكوب كي يشتد عودك، وترك لك أبوك هذا الإناء كي تتعلم من الأخطاء”.
انسكبت آخر قطرات الأمل من عروقه، وما بين الكوب والإناء وجدران زنزانته المظلمة كان يتأرجح قلبه بلا رحمة، تضخمت أمامه تلك الخطيئة التي لم يرتكبها، ولكن رغمًا عنه تعلَّق الماء بوجهه، لم يكن هو نفس الماء القديم، لقد كان ماءً من نار حرق كل ما بداخله؛ فصرخ قبل أن يسقط صريعًا بين الكوب والإناء: “لم أسكب الحليب ولم أترك الإناء قبل أن يصل إلى الأرض، كنت فقط أقف وسط الزحام لأحصل على حصتي من الخبز”.
نسمة أبو النصر
التعليقات مغلقة.