“بين الموسيقى والإيقاع الحركي ،وفنيات الإبداع ” دراسة نقدية تحليلية لقصيدة” صكُّ الغروب” للشاعر / عبدالعظيم الأحول … نقد وتحليل /أسامـة نور
“بين الموسيقى والإيقاع الحركي ،وفنيات الإبداع “
دراسة نقدية تحليلية لقصيدة” صكُّ الغروب”
للشاعر / عبدالعظيم الأحول … نقد وتحليل /أسامـة نور
النص:-“صَـكُّ الـغُـرُوب”
تُناوِئُ شَهقَتِـي بحِبالِ ذُلٍّ
وتَشنُـقُـها وأنتَ لها حَبيبُ !
وتَنسَى أن قَتَـلتَ ، ولا تُبالي
وتَمضي حيثُ يَرميكَ النصيبُ !
فمَن أغناكَ عَن عِشقي وقَلبي ؟
وكيفَ تبخر الحُبُّ الرهيبُ ؟!!
وكيف تذوقُ فنجانًـا بدوني ؟
ومنّي الهِيلُ والصُّبحُ القَشِيبُ !!
على شفتيكَ خارطةُ انفعالي
وبعضُ رُضابِيَ الحُلوُ العَجيبُ
وأنفاسي لَدَى رئتيكَ نَــقــشٌ
مِنَ الأفراحِ ، ليسَ لها رَقيبُ
فما ذنبي وقد فَـطَّرتَ قلبي
بغدرٍ صَـكَّـني منهُ المَشيبُ ؟!!
وتَسكُـبُ نارَ ظُلمِـگَ في ضلوعي
وأُقرِئُـكَ العُهودَ ولا تُجِـيـبُ !!!
فإنَّ الموتَ أسبَقُ منكَ عطفًـا !!
ومِن شَوقي ومِن حُزني قَريبُ
زمانُ القفر يأخذني ، فحاذر
ولا تأتِ العُيونَ ؛ أنا جَديبُ
سَأفعلُ كُـلَّ ما تصبو إليهِ
وأرحَـلُ ، وليؤيدني الحَسيبُ
الرؤية النقدية للناقد و الشاعر أسامة نور
مقدمة :-
يتفرد الشعر عن غيره من فنون اللغة ، بالتأثير في الآخر ، وبوقعه الساحر على المتلقي ، وباختراقه عمق الشعور
والوجدان ..
وفي هذاقال الرسول الكريم ” إن من الشعر لحِكَمًا وإن من البيان لسحرًا “
والشعر فن العربية الأول ، وهو مكمن الزهو والفخار ، فكما كانت العرب تزود عن نفسها بالسيف كانت تزود عن نفسها بالشعر ..
…كما أن الشعر هو أقرب الفنون للتعبير الذاتي ، وتصوير ما يعترك في النفس من أحاسيس ،ومشاعر شتى ، يهدهدها الشاعر فيخرجها لنا إبداعًا نسعد به ،وربما كان يتألم هو ويبكي حين إبداعه.
وكلما استطاع الشاعر نقل إحساسه ومشاعره بدقة ومهارة بحيث يتماس معها الآخر ،ويتجاوب معها ..أثر في نفس المتلقي شريطة أمتلاكه فنيات الشكل الشعري ..
والإبداع هو إن يأتي المبدع بما لايستطيعه الآخرون ،هو التميز والتفرد ..التجديد في الشكل أو المضمون أو في كليهما ..
**”في ماهية العنوان “
إن للعنوان أثرًا ووقعًا في النفس ؛فهو مدخل رئيس للنص ، بل هو نص مصغر يعبر عن النص الأصلي ..
لهذا أفرد الباحثون دراسات توضح أثر العنوان ،وماهيته ودلالته ، وأثره على المتلقي ودوره في النص ..
وقد ذهب إلى أهمية العنوان ودوره في النص الناقد الفرنسي “جيرار جينت “.
والعنوان هنا ” صكُّ الغروبِ”
يتكون من كلمتين صك خبر لمبتدأ محذوف والغروب مضاف إليه ..
صك معناها وثيقة وتعهد واتفاق .. وكأن الحبيب ببعده يمنحه صك الزوال والنهاية .
كلمةصك توحي بالاتفاق والوصول لحل تسلم معه النفس ،ويستقر فيه الحال .لكن تأتي كلمة الغروب كصرخة ، في وجه الأمل ؛لتثير تساؤلات عدة ..ما هذا الغروب ؟! من أطراف هذا الاتفاق ؟! ..هل الدافع له يأس أم تضحية ؟!
وهكذا يثير العنوان القلق والتعجب ، والدهشة .والرغبة في
استكشاف النص وسبر أغواره .
كما أن العنوان بكلمتيه يدغدغ المشاعر ، ويحرك الذهن . فهو عنوان مراوغ .
ومن هنا كان الشاعر موفقًا في اختيار العنوان الذي ،يجذب المتلقي ،ويثير شغفه لقراءة النص ..
“من حيث الشكل والموسيقى الداخلية “
القصيدة من حيث الشكل تنتمي للشعر العمودي ؛ فقد التزم الشاعر الوزن والقافية..وجاء الوزن على بحر الوافر التام “مفاعلتن ،مفاعلتن ،فعولن “
وبحر الوافر من البحور الصافية وهو يتميز بالموسيقى العذبة الرقيقة المطربة ، ويصلح للتعبير عن الحالات الشعورية المتعددة .
وحرف الروي هو الباء مضموم الحركة ..وقبلة ردف الياء .
ومن صفات حرف الباء
الجهر والشدة وهذه علة القلقلة فى
الباء وباقى الصفات هى : الاستفال والانفتاح والإذلاق
والإذلاق : هو خروج الحرف من الذلق وهو الطرف.
والروي هو النغمة التي ينتهي بها البيت ويلتزم الشاعر تكراره في أبيات القصيدة ؛ليكون الرابط بين هذه الأبيات وإليه تنسب القصيدة ..
وهو يعطى موسيقى تشد انتباه السامع .
وحرف الباء هنا يتميز بالرنين ؛فهو حرف انفجاري يجد الشاعر فيه متنفسًا للموقف النفسي ،كما أن الضمة توحي بالتماسك ،والقوة ..وردف الياء يوحي بالانكسار ثم التماسك بعده .. ويزيد من الأثر الموسيقى.
لهذا جاءت الموسيقى الداخلية ( البحر والقافية وحرف رويها ) مناسبة لعاطفة الشاعر ، تلائم الجو النفسي والشعوري ..
**”من حيث اللغة والمضمون ،والتجربة الشعرية “
استخدم الشاعر اللغة الحية الجزلة المعبرة ، ذات الدلالات والإيحاءات العميقة ، فشاعرنا يعرف أهمية الكلمة ،ودورها في إظهار الحالة ،ويعرف كيف يستخدمهافي مواضعها ،فاتسمت لغته بالسلاسة والدقة ؛بما يظهر تجربته الشعرية ،وينقلها إلينا حية متحركة .
فهو يبدأ بالعتاب واللوم على الحبيب ؛للجفاء ونسيان العشق فيقول:-
تُناوِئُ شَهقَتِـي بحِبالِ ذُلٍّ
وتَشنُـقُـها وأنتَ لها حَبيبُ !
وتَنسَى أن قَتَـلتَ ، ولا تُبالي
وتَمضي حيثُ يَرميكَ النصيبُ !
ثم يتساءل عن سبب هذا البعد ومن الذي غيره ،وكيف تبخر الحب ؟!
وكيف تستطيع الحياة بدوني
فيقول :-
فمَن أغناكَ عَن عِشقي وقَلبي ؟
وكيفَ تبخر الحُبُّ الرهيبُ ؟!!
وكيف تذوقُ فنجانًـا بدوني ؟
ومنّي الهِيلُ والصُّبحُ القَشِيبُ !!
يستمر الشاعر في العتاب ،ووصف تغير حال الحبيب
وكيف أن الموت أسبق عطفًا منه ..
في إشارة إلى سوء الحالة ،وأثر الهجر عليه ..
فيقول:-
فما ذنبي وقد فَـطَّرتَ قلبي
بغدرٍ صَـكَّـني منهُ المَشيبُ ؟!!
وتَسكُـبُ نارَ ظُلمِـگَ في ضلوعي
وأُقرِئُـكَ العُهودَ ولا تُجِـيـبُ !!!
ثم ينهي الشاعر قصيدة بإقراره إنه راحل ..فالشاعر دائمًا يذكر الموت في قصائده ..فتشغله فلسفة الحياة والموت ..
فيقول
الموتَ أسبَقُ منكَ عطفًـا !!
ومِن شَوقي ومِن حُزني قَريبُ
زمانُ القفر يأخذني ، فحاذر
ولا تأتِ العُيونَ ؛ أنا جَديبُ
سَأفعلُ كُـلَّ ما تصبو إليهِ
وأرحَـلُ ، وليؤيدني الحَسيبُ
نستشعر هنا عمق التجربة الشعرية ،والصدق الفني ،والوحدة العضوية في القصيدة.
**”من حيث الأساليب والصور والموسيقى الداخلية “
استخدم الشاعر الأسلوب الخبري للتأكيد والتقرير ..كما استخدم الأسلوب الإنسائي لإثارة الذهن وجذب الإنتباه ..
ونجد الأسلوب الخبري في:- تُناوِئُ شَهقَتِـي بحِبالِ ذُلٍّ/
وأنتَ لها حَبيبُ !/على شفتيكَ خارطةُ انفعالي/زمانُ القفر يأخذني / ؛ أنا جَديبُ.
كما استخدم الأسلوب الإنشائي الذي أضفى على النص الحركة والإثارة ،وأظهر عاطفة الشاعر وحيرته وتعجبه
فكان له دور كبير في نقل الحالة والعاطفة ..
ومن ذلك الاستفهام الذي يحمل التعجب والاستنكار مثل
. فمَن أغناكَ عَن عِشقي وقَلبي ؟/
وكيفَ تبخر الحُبُّ الرهيبُ ؟!!/
وكيف تذوقُ فنجانًـا بدوني ؟/
فما ذنبي وقد فَـطَّرتَ قلبي
والأمر في فحاذر. للندم للتحسر ..وكذلك في وليؤيدني للدعاء ،والنهي في ولا تأت العيون للحسرة والألم
..كذلك نجد الصور الفنية الراقية الطريفة في عمق ودقة تصوير ..وهي صور جزئية حركية مرئية ..مثل
تُناوِئُ شَهقَتِـي بحِبالِ ذُلٍّ/
وتَشنُـقُـها وأنتَ لها حَبيبُ !
والتصوير الرائع في
“ومني الهِيلُ والصُّبحُ القَشِيبُ !!”
وكذلك على شفتيكَ خارطةُ انفعالي
وبعضُ رُضابِيَ الحُلوُ العَجيبُ
وكذلك
وأنفاسي لَدَى رئتيكَ نَــقــشٌ
مِنَ الأفراحِ ، ليسَ لها رَقيبُ/
بغدرٍ صَـكَّـني منهُ المَشيبُ ؟!!
صور طريفة ..فيها تمكن وقدرة وقوة وسعة خيال ..
تناسب الحالة الشعورية . والحالة النفسية داخل النص ..
كذلك نجد الجمل المتجانسة ،المتناغمة ..والتقديم والتأخير
وحسن التقسيم ..وتنوع الأساليب مما جعل الموسيقى الداخلية ..تتجاوب مع الموسيقى الخارجية في تناغم وحركة
مما أحدث متعة سمعية ،
**” الإيجاز والمؤثرات الحركية “
من أهم ما يميز النص الإيجاز فقد استطاع الشاعر التعبير عن العمق الشعوري بإيجاز وبلاغة راقية ،كذلك كان للمؤثرات
الحركية دورها في إظهار النص وجعله كائنًا حيًا تسير فيه الروح النقية الشفافة الصادقة .
وكأننا أمام مقطوعة موسيقية عذبة ،شجية ،لا نمل سماعها
فكلما قرأنا القصيدة نزداد شغفًا ، وتعلقًا بها .
قصيدة راقية رائعة ، عامرة بالجمال والرقي وفنيات الإبداع ،.وبالحركة والتناغم الموسيقي ..
يتحقق معها الإبداع والإمتاع ..
تحياتي أسامـة نـور
التعليقات مغلقة.