“بين سـِـحْر التنـاص… و فنيات الابداع “- دراسة نقدية تحليلية لقصيدة “متجذرون ” للشاعرة المصرية د. ريهان القمري نقد وتحليل أسامـة نور
“بين سـِـحْر التنـاص… و فنيات الابداع “- دراسة نقدية تحليلية لقصيدة “متجذرون ” للشاعرة المصرية د. ريهان القمري نقد وتحليل أسامـة نور
“النص “متجـذرون للشاعرة د. ريهان القمري
أنا متجذرٌ فيها سنينا
وفيها قِبلتي لن أستهينا
فلسطينُ الحقيقةُ سوفَ تبقى
بأمرِ و حقِّ ربِّ المؤمنينا
فمن أنتَ الذي تحتلُّ أرضي ؟
أجبني يا أخسَّ الحاقدينا
أنا متجَذِّرُ التاريخِ فيها
أنا العربيُّ وابنُ الاكرمينا
صلاحُ الدين جَدّي صانَ عرضي
ويعربُ جدُّنا قد عاشَ فينا
وبطنُ الأرضِ من عزٍّ سَقَتْني
وشمسُ الأرضِ كانت لي جبينا
فمن أنتَ الذي يسقي رُباها
دموعَ الخزيِ و الحزنَ الدفينا ؟
دمي يفدي اللآليء من عيونٍ
طويلٌ يا طريقَ العاشقينا
أنا العربيُّ قرآني بيانٌ
فمن أنتَ الذي تمحو اليقينا ؟!
وأمرُ الله فيها قد تجلَّى
وربُّ الحقِّ يجزي الناصرينا
أنا متجذِّرٌ والأرض أرضي
وأرضي لا تحبُّ المُرجفينا
أنا متجذرٌ يحبو إليها
وريدي منذ أن كنتُ الجنينا
فما أنتم سوى أحفادِ غِلٍّ
أنا متجذرٌ دنيا و دينا
إليها خُطوتي تجري وتمضي
بأمرِ اللهِ أقسَمَتِ اليمينا
وكالزقُّوم سوفَ أكونُ دومًا
حميمًا في بطونِ الغاصبينا
النقد والتحليل :
إنَّ الإبداع ترجمة للمشاعر والعواطف ، والواقع الذي يعيشه الإنسان ..والشاعر يختلف عن غيره؛ لأن لديه شعورًا فطريًا وإحساسًا مرهفًا، وموهبة من الله سبحانه وتعالى تجعله قادرًا على التعبير عن خلجات النفس البشرية وعواطفها ، وعن الواقع ،كما أنه يصوغ مشاعره وفكره بحيث تتماس مع الآخر
وتجد صدى لدى المتلقي والسامع …
و في رأيي أن “كل شاعر فيلسوف ،وليس كل فيلسوف شاعر ” …
ولكن هل يكون الفن للفن والمتعة فقط كما ذهبت نظرية الفن للفن ،أم يكون الفن للمجتمع ومعالجة قضاياه ومشكلاته …
لا شك أن الفن والآدب هما مرآة المجتمع ، وقلبه النابض ..
وميزانه الذي يبصر ويوجه ويرشد …
ولكن كلما كان الفن والأدب يعليان من شأن المجتمع ويعالجان القضايا المجتمعية والوطنية والإقليمية ..مع
الاهتمام بالجمالبات والفنيات وتحقيق الإمتاع ..كان الإبداع
متحققًا والفائدة قائمة .
في ماهية العنوان :
عنوان النص “متجذرون “.
كلمة واحدة ..بصيغة جمع المذكر السالم ..مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن أو ما عادله ..حذف المبتدأ
للاهتمام بالخبر وتأكيده ..
الاصل اللغوي لها “جَذَرَ” والاسم “الجِذْر” والجذر هو الجزء الثابت من النبات في أعماق التربة ..
ومن هنا يدل العنوان “متجذرون “على الثبات والأصالة
ومتجذرون اسم فاعل أي أن لنا أصول ثابته بعضها من بعض
وبهذا فإن العنوان مؤثر له دلالته اللفظية واللغوية والبلاغية.
كما أنه يحوي الصمود والتحدي ..
من حيث ” الشكل والموسيقى الخارجية
النص ينتمي إلى الشكل العمودي ،حيث التزمت الشاعرة
بوحدة الوزن والقافية ..كما استخدمت التصريع في البيت الأول ..فمن حيث الموسيقى الخارجية كتبت الشاعرة نصها
على بحر الوافر التام ( مفاعلتن مفاعلتن فعولن )في كل شطر
مع استخدام الزحافات والعلل المناسبة له ..
فكانت الموسيقى حاضرة زاهية مناسبة للجو النفسي الحماسي ..والفخر والتحدى ..كما أن الإيقاع السريع يناسب
الفخر والحماسة والقوة ..
كذلك ..جاء حرف الروي ( النون ) مناسبًا..ملائمًا للجو النفسي ،وغرض النص ؛لما يحدثه صوت النون من نغم ورنين .
ولحق حرفَ الروي الألفُ المطلقة التى توحي بالقوة والحرية
والتحدى والإصرار ..كذلك سبق حرف الروي” الردف ” وهو الياء الساكنه التي أحدثت تناغمًا وجرسًا موسيقيًا …
وهكذا فلموسيقى حاضرة برقيها وجمالها وتناغمها …وتناسب الجو النفسي ومضمون النص …
المضمون والمفردات والأساليب
تعبر الشاعر في بداية النص عن الفخر ولصمود والتحدي
عن الأصالة والثبات ..في مواجهة العدو الغاشم ..عن ثبات الجذر والأصل فهي تؤكد عروبة فلسطين ورفضها كل ألوان التحايل والخداع..
فتقول الشاعرة :-
أنا متجذرٌ فيها سنينا
… وفيها قِبلتي لن أستهينا
فلسطينُ الحقيقةُ سوفَ تبقى
بأمرِ و حقِّ ربِّ المؤمنينا
بدأت الشاعرة القصيدة بضمير المتكلم” أنا متجذرٌ”ليدل على الفخر والاعتزاز بالنفس وبالأصل وبتتابع الجذور فالجذر هنا يرمز للثبات ، وقدم الأصل وتتابعه ..ثم تشير إلى القبلة الاولى ( المسجد الأقصى ) ..وتوكد باستخدام النفي أنها لن تستهين ..ولن تتخاذل ..ولن تفيد المستقبل ..
ثم تصرح ” بفلسطين ” وأنها باقية بعناية الله وأمره ..
ثم تشير إلى الأصل العربي ..والى صلاح الدين الذي أعاد بين المقدس فهنا تذكرنا بتاريخ مجيد زاهٍ..
فتقول :-
أنا متجذر التاريخ فيها
أنا العربيُّ وابنُ الأكرمينا
صلاحُ الدين جَدّي صانَ عرضي
ويعربُ جدُّنا قد عاشَ فينا
وتستخدم ضمير المتكلم أيضًا للقصر والتأكيد والفخر والاعتزاز..
وتذكر الشاعرة على الركائز الدينية متمثلة في القرآن الكريم
الذي يؤيد عروبتنا ..ويؤكد عزتنا وسمونا ..
واستخدمت الشاعرة المفردات الفصيحة السلسة المعبرة عن مضمون القصيدة وغرضها ..
كما استخدمت الأسلوب الخبري للتقرير والتأكيد
مثل ..أنا متجذرٌ فيها سنينا
….وفلسطينُ الحقيقةُ سوفَ تبقى
وأنا العربيُّ قرآني بيانٌ
كذلك.
أنا متجذِّرٌ والأرض أرضي
وأرضي لا تحبُّ المُرجفينا
وكلها خبرية تتضمن مفردات جزلة قوية ،تؤكد المعنى.
واستخدمت أيضًا الأساليب الأنشائية ؛لأغراض بلاغية
مثل :- الاستفهام في
فمن أنتَ الذي تحتلُّ أرضي؟!
وكذلك في فمن أنتَ الذي يسقي رُباها
دموعَ الخزيِ و الحزنَ الدفينا؟!
فمن أنتَ الذي تمحو اليقينا ؟!
الاستفهام هنا للاستنكار والتحقير ..
وكذلك النداءفي:-
” يا أخسَّ الحاقديا “نداء التحقير”
يا طريق العاشقينا” التعظيم “
الفنيات والصور والموسيقى الداخلية :
تمتلك الشاعرة آليات الشكل العمودي ، كما أنها تجدد من حيث الصور ..رغم أن الغرض الحماسي والفكرة الواقعية
والحالة يطغون على العاطفة داخل النص ..
..كما أن الشاعرة تعبر عن همٍّ عام ..لكنها عبرت عن العام من خلال الخاص في حركة وتناغم ..وصور حية ..
استخدمت الشاعرة الصور الجزئية مثل
” متجذرون “. أنا متجذرٌ…
دمي يفدي اللآليء من عيونٍ
….طويلٌ يا طريقَ العاشقينا
والصورة الرائعة الطريفة :-
أنا متجذرٌ يحبو إليها
وريدي منذ أن كنتُ الجنينا
وكذلك الصورة والتناص القرآني الرائع في ..
وكالزقُّوم سوفَ أكونُ دومًا
وحميمًا في بطونِ الغاصبينا
الصور قليلة لكنها معبرة ..بسبب غرض النص وواقعيته ..
وكذلك كان للمعاني و المحسنات البديعية دورها في النص مثل :- القصر والتأكيد ..أنا متجذر …أنا العربي …إليها خطوتي
فما أنتم سوى أحفاد غلٍّ
والنفي للتأكيد في لن أستهينا …
والجناس الناقص في” دنيا ودينا ” وما يحدثه من جرسٍ موسيقي
والتصريع في البيت الأول
التناص داخل النص وأثره :
١- النص من حيث الشكل والمعنى يتناص مع معلقة عمرو بن كلثوم.الشهيرة التي مطلعها ..
ألا هبي بصحتك فأصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
فنجد قصيدتنا تتناص مع معلقة عمرو بن كلثوم في الوزن ( البحر الوافر ) وفي القافية والروي وفي الغرض ..
لكن يبقى للشاعرة تميزها في المضمون والمفردات والصياغة
والتجديد ..
وكأنها توكد أن الجذر أيضا متواصل في الأرض وفي الشعر أيضًا ..وأنها من جذور هؤلاء الشعراء العظام ..
٢- كذلك التناص الرائع في اللفظ والمعني مع القران الكريم
في قول الشاعرة “
“وكالزقُّوم سوفَ أكونُ دومًا
حميمًا في بطونِ الغاصبينا”
وهذا تناص مع قوله تعالى ” إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)”صدق الله العظيم…..سورة الدخان. ..
٣-التناص بين الكلمة والرسم التشكيلي “لوحة متجذرون” للفنان الفلسطيني” نياز المشني”
…هناك تناص بين قصيدة الشاعرة ولوحة ( متجذرون ) للفنان الفلسطيني ‘زياد المشني “.فنجد هنا اقتباس العنوان( متجذرون)
وهنا تناص حيث حولت الشاعرة التعبير بالرسم التشكيلي
إلى تعبير خطي كتابي ..ولكنها لم تقف عند حد الوصف
وإنما أضافت وصاغت معالم أخرى ميزتها ..وجعلت للقصيدة
شخصيتها المستقلة الواعية رغم تواجد التناص ..
فبنية النص منفصلة خاصة ..وهي بنية متماسكة ترسخ الفكرة والحالة …
وبهذا كان للتناص حضوره على مستوياتٍ عدة ..ولكنه أعطى النص بهاء وجمالًا ..واستخدمته الشاعرة بوعي وبنية مستقلة
**فقد استطاعت بهذا التناص ..إبداع نص جديد مغاير في بنيته وجمالياته عن النصوص…والأطروحات السابقة ….
**
وبهذا استطاعت الشاعرة صياغة فكرها بسلاسة ، وعذوبة
وقوة ، فجاء النص حركيًا متناغمًا ، يعكس الحالة ويصورها بعمق ويحدث تماسًا مع الآخر ..
ولكن يبقى من وجهة نظري ما يلي :-
١- تقول الشاعرة في البيت الثاني :-
فلسطينُ الحقيقةُ سوفَ تبقى
بأمرِ و حقِّ ربِّ المؤمنينا
في الشطر الثاني ” بأمرِ وحق رب المؤمنينا ” استخدمت الشاعرة العطف على المضاف فأحدث ذلك ثقلًا في النطق
رغم أن هذا التعبير صحيحًا من الناحية اللغوية لكنه ليس
فصيحًا ..لما يحدثه من ركاكة وثقل ..ومن الصواب والفصاحة ..عدم الفصل بين المضاف والمضاف إليه..
٢-قول الشاعرة :-
إليها خُطوتي تجري و تمضي
الفعل يجري يعبر عن المضي والحركة والسرعة والهدف
فلا وجه لاستخدام الفعل تمضي فلم يصف معنى ولا بلاغة..
وكان يجب استخدام تعبير أقوى يبين سمو الهدف ورفعته ..
ونجدأن الإبداع تحقق في النص ؛ لما يحدثه من أثر في النفس ، وتماس مع المتلقي ، فهو يرسخ ويؤكد الهوية العربية
والجذور التاريخية ..ليواجه محاولات تغييبنا وفصلنا عن جذورنا وهويتنا ، كما أن النص زاخر بالفنيات والجماليات ..
وروعة التناص وسحره…
فحقق النص الإبداع والإمتاع..
تحياتي أسامــة نور
التعليقات مغلقة.