بُدَيح في بلاط الخلفاء بقلم : مدحت رحال
كان بلاط الخلفاء إلى جانب كونه قاعدة للحكم وتصريف أمور الدولة السياسية والعسكرية والحياة المدنية وغيرها مما يتعلق بالدولة وحياة الرعية ،
كان ايضا ملتقى لضروب الفكر والمعرفة ، أدبا وشعرا ومنادمة ،
يلتقي فيه الخاصة من المقربين من الخليفة وكبار الشعراء والأدباء وأرباب العلم .
ولم تكن هذه المجالس الخاصة تخلو من الطُرَف والظُرف والظرفاء ، فيضفون على المجلس من ظرفهم ونوادرهم ما يدخل البهجة والسرور على نفس الخليفة أولا ، وعلى رجال البلاط والحضور ثانيا مما تناقلته كتب الأخبار والتاريخ .
..
وكان / بُدَيح أحد هؤلاء الظرفاء الذين تحلو بهم المجالس .
فمن هو بُديح ؟
هو تابعي كان مولى لعبد الله بن جعفر ،
اشتهر بدماثة الخُلُق والأريحية ،
حسن الصورة والصوت ،
فيه دعابة ولطف معشر ، حتى إنه كان يمازح الملوك
ولُقِب ب / بُديح المليح .
وكلمة / بدح تدل علي الليونة والسهولة ،
ولعل ذلك هو سبب تسميته / بديح
..
قرأت من قريب لصديق على صفحة الفيس أن بُديحا اجتمع في مجلس مع الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد :
تعال نأخذ في الأماني وسأغلبك .
يقصد ليتمنى كل واحد ما يريد .
قال له بديح : لن تغلبني
قال الوليد : سأغلبك ، سأتمنى ضعف ما تتمنى .
قال بديح : فإني أتمنى سبعين كِفلا من العذاب وأن يلعنني الله لعنا كثيرا .
فقال الوليد : غلبتني ، قبحك الله.
( قرأتها وكان بي بعض الكآبة فما زلت أضحك حتى انفرجت أساريري متعجبا كيف خطر له هذا الخاطر )
..
ومن نوادر بديح وظرفه أن عبد الله بن جعفر دخل على الخليفة / عبد الملك بن مروان وهو يتألم ويتأوه .
فقال له : ما الذي بك يا أمير المؤمنين ؟
قال : هاج بي عرق النّسا فبلغ بي ،
قال ابن جعفر : إن لي مولى يدعى / بُدَيحا ،
كانت أمه ترقي من هذه العلة ، وقد أخذ ذلك عنها ،
قال عبد الملك : فادع به ،
فأرسل في طلبه ،
فما أسرع أن حضر بديح ،
قال له عبد الملك : كيف رقيتك من عرق النسا ؟
قال بديح : أنا أرقى الخلق يا أمير المؤمنين ( أي أحذقهم في الرقية ) .
قال له عبد الملك : لقد هاج بي عرق النسا وبلغ مني ،
فارقني .
..
جلس بديح ، وجعل يتفل على ركبة عبد الملك ويهمهم ،
ثم قال : قم يا أمير المؤمنين ، جُعِلت فداك ،
فقام عبد الملك لا يجد وجعا
فقال : الله أكبر ، وجدت والله خَفّا
يا غلام ، أدع فلانة الجارية حتى تكتب الرقية .
فلما جاءت الجارية ، قال عبد الملك لبديح :
إلق إليها الرقية لتكتبها ،
قال بديح : يا أمير المؤمنين ، إمرأتي طالق إن كتبتها حتى تعجل صلتي
فأمر له بأربعة آلاف درهم ،
فلما صار المال بين يديه قال:
امرأتي طالق إن كتبتها أو يصير المال إلى منزلي ،
فأمر فحُمل المال إلى منزله
ثم شرعت الجارية فكتبت :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ))
فقال بديح :
ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم
فقال عبد الملك : ويلك ، رقية ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم ؟ !!
قال بديح : هو ذاك ،
امرأتي طالق إن كنت رقيتك إلا ببيت نصيب :
ألا إن ليلى العامرية أصبحت
على النأي مني ذنب غيريَ تنقم
..
وما ذاك من شيء أكون اجترمته
إليها فتجزيني به حيث أعلم
..
ولكن إنسانا إذا مل صاحبا
وحاول صرما لم يزل يتجرم
..
فقال عبد الملك : ويلك ، أكتمها علي ( أي لا تخبر بها أحدا ) ،
فقال بديح : كيف وقد سارت بها الركبان إلى أخيك عبد العزيز في مصر ( وكان واليا عليها ) .
فطفق عبد الملك يضحك حتى إنه ليفحص الأرض برجليه ( من شدة الضحك ) ،
أقول :
لم يكن الخليفة أو الأمير بمعزل عن الناس في برج عاجي .
فقد كانت مجالسهم مفتوحة وقصورهم مقصودة .
مدحت رحال ،،،
التعليقات مغلقة.