تجربة
بقلم عبدالله عبد الإله باسلامه
لا أدر بالضبط كيف دنى السقف !
من ثلاثة أمتار إلى بضع انشات إلى سنتيمترات إلى أن اطبق علي !.
في لحظة ما تفجر صمتي ..اخذت أصرخ وادفع الجدران، وأصرخ وارفع السقف، واصرخ وأجري مبتعدا عن العيون والصور وروائح الناس الكريهة واصواتهم القبيحة ….انطلقت بكل قوة، حتى شعرت اني اتنفس الهواء النقي !
ربما مر يوم أو يومان حين توقفت منهكا ..
لمحت كلبا يلتهم شيئا جوار صندوق كبير ..اقتربت فزمجر في وجهي محذرا .. تقدمت دون اكتراث فما كان منه إلا أن فر من أمامي تاركا المكان، أتذكر أني انكببت على الصندوق شاعرا بالزهو .
ظلت عيون الناس وأصواتهم، وأيديهم تؤذيني و تشدني، وتجرني، وتطاردني ….ثم أخذت تبتعد عني وتبعدني، ثم تتحاشاني! .
أويت إلى قالب اسمنتي قريب من الصندوق .. نسجت من الكراتين والحبال والقناني والاكياس شرنقة متينة الجدران دون سقف، هندستها بتأن أتذكر أني لم اترك لعين العالم ثغرة واحدة تراقبني من خلالها .
لا شك اني كنت سعيدا أتذكر ذلك جيدا ..
فقد خططت دائرة حول الصندوق تبدأ من قالب الإسمنت وتنتهي إليه، وفي الداخل أخذت اعاقر السكون والأمان .
تقلص بطني، وجفاف حلقي يدفعاني إلى الخروج..لكن رؤيتي للكلب وهو يقفز مبتعدا خارج حدود الدائرة كان يمنحني شعورا لذيذا .
أتذكر جيدا أني قسمت الشارع الطويل الى مربعات، وبدأت اسمع صوتي وانا اسب أولئك الاغبياء الذين يتجاوزون حدودهم المرسومة، ويتخطونها بفوضوية يثيرون بها غضبي… الذي تحول إلى وعيد وتهديد وتلويح بقبضتي ليلوذوا بالفرار كما الكلب!
كنت انتشي بشعور القوة والسيطرة والسعادة
و…..
وحين افقت سمعت صوت الطبيب وهو يطرح علي بعض الأسئلة، ويعدد بعض الأرقام…وفهمت أني خضعت لتجربة وأن التجربة نجحت !!
تعرفت على وجه أبي الساخط يرمقني بصمت، ووجه أمي الباكي المتغضن، ووجه أخي واختي المتلفعة بالسواد، وطفل متشبث بساقيها راح يرمقني بخوف!
شعرت بالاضطراب والتوتر والضيق فاشحت بنظري نحو السقف الذي بدأ يدنو مني ..
- الحمدلله على السلامة.
- لو أنه مات كان أحسن .
- قلنا الحمد لله على السلامة.
- أه بعد الفضائح التي سببها لي ..لقد سود وجهي بين الناس .
- كل شي يتصلح المهم أن يعود إلى البيت .. وأنت يا أحمد عليك أن تفرغ غرفتك .
- ماذا غرفتي أنا؟! مستحيل يا أمي..
- ماذا تقصد بمستحيل يا ولد ؟!
- أقصد أن عليه العودة إلى مكانه السابق.
- وماذا يقول عنا الناس ؟! ثم أن الطبيب قال يجب ابعاده عن الأماكن التي كان يعيش فيها.
- و أين اذهب أنا ؟
- حيث كان هو .
- ماذا ؟!…. أووووف…اخذتم بنطلوني وقميصي لأجله والأن غرفتي و…
- كما قال الطبيب أن عليه ممارسة الأشياء التي كان يحبها.
- اتقصدين كتب ال……
- أي هندسة واي بعسسة ياعجوز..لايوجد معي أولاد لهذا الكلام الفارغ ..سيبدأ العمل مع الحاج علي في ورشة اللحام، أو مع الحاج ناصر في وكالة الغاز يكفينا فضائح..
- لكن ال…..
- اخرسي ايتها العجوز !! هي كلمة واحدة ولن أكررها و……. أهلا يادكتور تفضل .
- هسسسس ماذا يحدث؟! لماذا تتشاجرون ؟!..قلت لكم زيارة صامتة، هيا هيا ..تفضلوا ..المريض يحتاج إلى أسبوعين على الأقل قبل أن يعود هيا اتركوه وحده .
لوهلة خيم سكون صاخب يدفع بالجدران نحوي فيهوي بالسقف ليسقط على رأسي، ويسحق صدري ..تسللت …وانطلقت خارجا نحو الهواء والفضاء .
من بعيد لمحت برميل القمامة، لم أتوقف حتى لألتقط انفاسي بل أسرعت نحوه بخطى واسعة ،شعرت بتدفق الهواء ممزوجا بروائح نتنة!!
وكلما اقتربت ثارت سحب من الذباب حولي .. توقفت.. تلفت.. هل أخطأت المكان؟!
لكمني مرئى قالب الاسمنت بجانب البرميل، وآثار خط ترابي تحيط به قاذورات ممتدة في خطوط متوازية !
أنا أتذكر هذه الخطوط جيدا ..
هرعت نحو القالب .. لأجد كراتين وحبال وقناني بلاستيكية مترابطة بأحكام مع رقع من الملابس الممزقة تعج بالقذارة !
يا إلهي..!!
براز جاف يسد الفتحات والثقوب الصغيرة، و يلطخ المكان من كل جانب، وقذارة من نوع آخر تحولت إلى عش لجموع من الدود والصراصير تتشاركه مع ذباب لها رؤوس حمراء وبطون زرقاء لامعة بغيضة المنظر .
يا إلهي ماذا فعلوا بي؟
شعرت بالدوار وأردت الصراخ ..لكن الهواء تجشأ في فمي ..اختنقت بالسخونة والروائح الكريهة وكدت اقع لولا أن باغتتني زمجرة كلب اقشعر لها جلدي ..التفت بذعر رأيته مكشرا عن أنيابه مستأسدا على المكان…تراجعت بخوف وعدت ادراجي .
عبدالله عبدالإله باسلامه
اليمن / ذمار .
التعليقات مغلقة.