تعددت زوايا الرؤية والقصة واحدة
…………..
قراءات نقدية متنوعة لقامات نقدية عربية مهمة
سيدة النقد العربي / كنانة عيسى..سوريا
أستاذة النقد النفسي / د. جمانة الزبيدي..العراق
أستاذة التحليل والتأويل / د. نور الزهراء..العراق
أستاذ النقد الحديث / سيف بدوي…مصر
قصة ذباب
للقاصة المصرية / سيدة القص القصير
أمل البنا
يتقاسمن عربة قطار عرجاء تخترق القفار الصاخبة ،صوب المدينة بعد عناء يوم طويل ،افترشن مقاعد متقاربة ذابت فوقها أنات الاعتراض ،حصار من الذباب المتصارع جري بتنظيم إيقاعي بكل الوجوه ،تعرفن في تلك الحملة التي واجهنها بكل ما أتيح لقواههن المثابرة لإبعاد أسرابه الطائرة عن بعض تفاصيل أعبائهن اليومية التي لا تنتهي ،خلدن إلي صمت يتسرب للذاكرة ،تناوبن حلما ثقيلا أسبل أجفانهن الغارقة في غيبوبة نعاسٍِ ،احتمين بصفير الآلة اللاهث إلي الفردوس العالق بالأفق
ش :تجتاز رحلة بعيدة ،تغادر بعدها وقد طفقت عيناها بدموع استسلام عميق للنهاية ،جابت انحاء القطر تستجدي حل معادلتها الفلكية
… قالوا : النهاية أن تركض لتقبل قبل الجميع وتحظى السباق
ن: تعتصر عرقا” باردا” يثلج ظهرها ،كلماتواجها يغدقها ببذاءاته ، تنظر لأطفالها ،الفوضى التي تخلفها الروح العالقة ،تبقي إلي الفجر تغترف وحدتها ،تسعي لمحافل القضاء ،تقتبس النور بالأروقة المظلمة وهي تحمل صغيرها
… قالوا :الملائكة تهبط والديكة تصيح
ق :تحاول إيجاد حلٍّ” للمعادلة العبثية ،تسعى لأعوام مضت لإثبات أحقية تعيينها كمعيدة ، بعدما استبعدوها لتعيين أحد أبناء اساتذة الجامعة
… قالوا :أن تجد حلا” لمعادلة عبثية أن تسلك نفس العبث
سلك القطارالمنحدر ليصل المدينة بعد الغروب ،استيقظن ،بينما الذباب قد افترش المكان للمبيت.
Aml ELbnna القاهرة في ٢٠١٥
………..
القراءة الأولى لكنانة عيسى
عندما نقرأ نصًا للأديبة أمل البنا، فنحن ننتظر بشغف نسيجًا لغويًا ذا مذاق خاص، و طرحًا مشوقًا لمحور إنساني، أخذ طابع الرقة والقوة معًا، إنه الاستخدام المتقن لنون النسوة في بلاغة فلسفية جميلة.
سنجد أن السرد القصصي اختزل لنا معاناة نسوه ثلاثة، اُختُصرت أسماؤهن رمزًا بحروف خاصة، لتترك الكاتبة للمتلقي حرية العبث والتفكيك والتركيب لدلالات الحروف، ليكون التركيز الحقيقي على المعاناة الإنسانية الأنثوية المحضة.
أبدعت الكاتبة في رسم الشخصيات النسائية من منطلق آلامهن، فالمرأة الأولى تنتظر احتضارًا بتاريخ صلاحية، خارج عن إرادتها، والمرأة الثانية هي أم وحيدة تخوض صراعَ انفصال ظالم من زوج مجحف، باحثة عن فكاك لانور له في محاكم لا تنصف آلام الأنوثة وحقوقها، و المرأة الثالثة تسعى وراء حلم تستحقه، فيسلب منها بسبب قهر المجتمع الفاسد بأطيافه المقيته .
أبدعت الكاتبة بخلق حدث رمزي اتكأ على استخدام طرفي صراع متناقضين..
الذباب الذي يمثل رمز الفساد والتفسخ والانحلال الأخلاقي، وآلام المرأة المدانة في مجتمع قاهر، حكم عليها بصراع أزلي لا مخرج له.
رسمت لنا الكاتبة مخرجا بوهيميًا من خلال عبارات عذبة مثل (الملائكة تهبط)، (تسقط الحكمة) ستستيقظ النسوة من نعاسهن القصير من تلك السكينة المؤقتة معلقات في انتظار نهاية مختلة (معادلة عبثية)، يأملن أن تصل بهن إلى أنفسهن.
دمت بألق جميعا
كنانة عيسى ..٢١ أغسطس ٢٠٢٠
Kinana Eissa
القراءة الثانية د. جمانة الزبيدي..العراق في ٢٠٢١
الجو النفسي في النص القصصي للقصة القصيرة للمبدعة أمل البنا..
نص سريالي بانفاس رمزية إرتسمت فيه لوحة تنتمي بالحداثة الادبية الى الانطلوجيا السردية…
لايتمكن اي كاتب من مزج هذه الألوان الثلاثة بانسجام مغرٍ مالم يكن متكئاً على ادواته الادبية بثقة…
تنوعت الاجواء النفسية في القصة بين ثلاث عقد محبوكة…
الأول..حيث تتصارع فيه (ش) الساعات الاخيرة من حياتها للعلة(المخزية) المنسابة اليها قهرا وقسرا…ونبذ المجتمع الآنف والمشمئز من هذه العلة…وبما ان الجو العام الغالب هو الاطار الشرقي فمن البديهي ان تكون الجندرية القبلية حاضرة وبقوة…فمابين رجم بكلام وسلق ببذاءة وجلد بسياط نظرات التهكم والاحتقار…كان النتيجة الفرارالى حيث مجهول المعرفة ..
الثاني..(ن)..التسلط وعنجهية القوامة…وسادية الاعتلاء وتلذذ الاقوى بتأوهات الأضعف…تعالي التصفيق يخنق صوت الاعتراض ليولد بحة مكتومة ..لتكتفي معها بواحد من مجموع ما أنجبت…التخاذل والتكاتف المجتمعي ضد المرأة دفعها بالتالي الى. قطار الخيار الأعرج..
الثالث(ق)..لازالت المرأة سلعة تباع وتشترى وتمتهن حتى لو اعتلت أعلى المناصب، وحازت على اسمى الشهادات فستضل بعرف المجتمع القابع تحت عناوين (سي السيد)
ما هي الا مصدر للنخاسة…
الرفض والتمرد والحلول الشوهاء…ساق الثلاث الى القرار الأعرج نتيجة للضغوطات النفسيةالمتصارعةوالمتنازعة…ليعلو بعدهن ازيز الذئاب معلناً ….البقاء.
Jomana Alzobaide
القراءة الثالثة ( نور الزهراء )..العراق
الوجه الآخر في قصة ذباب للكاتبة أمل البنا..
تشكل منصات الأعمال الأدبية عاملا مهما لجذب القارئ وعندما يلوح في الأفق عنوان ( ذباب ) يسحب الفكر إلى حيث تجمع الوحل والقاذورات إذا الذباب لايتجمع في الأماكن النظيفة ، عنوان يحيلنا لقراءة ما بعده إذ تبدأ بمقدمة وصفية لقطار أعرج يسير يحمل معه الركاب ، تسلط الضوء على ثلاث نساء التقين به، وتبوح كل واحدة اساريرها للاخرى. بأسلوب يجمع دونية المجتمع المنهار المعاش في ظل جندرية تمثلت وتجسدت بأدق تفاصيلها مثلتها القاصة بمهارة ونقد لاذع للوضع الاجتماعي المنهار للنساء في مجتمعها بدءا من القطار الأعرج إذ مثل الحكم والقانون السائد إذ يسير لجانب واحد وعن الحق يحيد بانصاف ثلة من النساء تقبع تحت وطأة جندرية المجتمع الذكوري من جانب والفساد الاجتماعي وإعلاء المصالح والمنفعة من آخر. تتضح أوج صورها ووضوحها عندما رمزت القاصة بأسماء النساء بأحرف فقط وهي ( ش ، ن ، ق) وبجمع الحروف المتقطعة تكون كلمة ( شنق )
كلمة تميت الشخص اسوء ميتة، بطيئة لا تمتاز بالسرعة ، وتعتمد على شخص يملك من قساوة القلب بل قلب ميت. لتقول لنا القاصة تموت المرأة في مجتمعي من سلطة قانون أعرج يجانب الحق بسبب الفساد المستشري فلم يسكن فيه إلاّ الذباب. إذ تعمدت القاصة كلما ذكرت قصة إحداهن عقبت بقول ( قالوا ) وهذا التعقيب فرضية تلقيها الكاتبة عن عمد للقارئ ليكون منصفا في زمن ضاع وغار الإنصاف فيه ببئر سحيق القته تجاذبات المصالح المتصارعة فيما بينها .. ووسمت القاصة حكايتها بقولها ( سلك القطار المنحدر ليصل المدينة بعد الغروب والذباب افترش المكان للمبيت ) الذباب إذ كان حاضرا (ظاهرا ومستترا) على طول الخط
أولا ظاهرا : للمسير القصصي الكتابي ظاهرا للعلن والعيان.
ثانيا مستترا : متمثلا بفساد المجتمع واجحاف وسلب حقوق من اتصف بالضعف والوهن ومن لا يملك لا حولا ولا قوة.
وظفتنا القاصة من خلال ثلاث نساء حكم عليهنّ فساد المجتمع السعي خلف مجهول يقودهنّ الأمل علّهنّ يجدنّ من ينصفهنّ.
الهدوء والسكينه في ٢٠٢١
القراءة الرابعة : سيف علي بدوي
رؤوس أقلام لقراءتي
(1)
ما إن طالعت النص .. حتى تلقيت الصدمة الأولى .. إذ العنوان : (الذباب) .. وهو الاسم الدال على مسمى حقيقي معلوم للكافة كحشرة.. بكافة إحالاته الانعكاسية على المتلقي والتي ليس من بينها إحالة واحدة تبعث على السرور أو ما شابه ، بل علي العكس .. فتلك المفردة الدالة على مسمى، وسواء أكان استخدامها هنا إبانة للمسمى أو كان على سبيل المجاز، صادمة في كل حال.
كلمة واحدة .. استطاعت بها الكاتبة أن تحول الكتلة الشعورية للمتلقي على نحو محدد .. كشرط ـ ارتأت هي ضرورته ـ أن يكون مخلاً وأفقاً للنص ..
وعلى قدر إشادتنا بهذه القدرة على تهيئة المتلقي على مراد الكاتب .. فإن الوجه الآخر هو أنه سيكون حتما علينا أن نتأمل النص .. ونقيم مدى الضرورة الفنية لتلك التهيئة .
هي نون النسوة ، فـ (هن) .. ومن بداية النص.. فاعلات .. غير أنك إذ تتوغل قليلاً تكتشف أنهن لسن كذلك .. هن الضحايا .. المجني عليهن وإن اختلفت الطرائق والمصائر.. كل ذلك مقابل (وفي مواجهة) الـ (هم) المجهلة تجهيلا للعموم وللسيادة والسطوة ، ضمير غائب جمعي ذكوري (قالوا).. وآية ذلك أن كل ما سطرته الكاتبة بعد لفظ (قالوا) منسوباً إلى هذا الضمير .. صاغته ـ في إشارة شديدة الذكاءـ فيما يشبه الحكمة الحاكمة
(2)
مطلع النص.. افتتاحيته .. فقرته الاولى.. سأسميها مشهداً . لماذا؟ ( أتساءل)
أجيب : أن عناية الكاتبة جاءت بكل ما يسهم في أن ترسم تفاصيل مشهد بصري حركي .. لا ظاهراً فقط .. بل متساند على مكنون نفسي لبطلات النص
تقدم لنا الكاتبة ثلاث بطلات دون تسمية، مجرد ترميز، وكأنها تقول: ليس مهما الاسم .. ولكن المسمى .. هو الجوهر والمتن والحاشية .. المرأة .. نون النسوة التي صدرت بها النص، يمكن القول أن الثلاث بطلات هن ثلاث ضحايا .. كما قلت .. وإن اختلفت تفاصيل الجريمة ولكن المصير واحد .. وهن ثلاث شرائح متفاوتة اجتماعيا وثقافيا وريما طبقياً
أولاهما : (ش) ذلك الحلم الذي لا يتحقق .. السرمدي الأبدي .. الدائرة بغير ابتداء أو انتهاء .. هي معادلة (فلكية) كان حظ البطلة فيها هو الاستسلام ، لم تفصح الكاتبة عن كنه الأزمة لبطلتها ولكن صبغتها بصبغة أقرب للفلسفة والأفكار من أن تكون أقرب للوقائع العيانية، القبح هنا مضمر.. محذوف نصا.. متجسد عمقاً ومعنى.
ثانيهما : (ن) .. حيث تهوى بنا الكاتبة من علياء الأفكار الكلية (الفلكية) إلى هاوية الواقع الجسداني الشخصاني، فالبطلة زوجة وأم.. تنبع أزمتها من تلك العلاقة بآخر ذكري.. قادها عبر تأزم علاقاتهما نحو أروقة المحاكم.. وما يقترن بها من عنت وإرهاق وفقدان أمل.. وكذا ما يوازيها من أزمات ذاتيه داخلية تعانيها البطلة ليلا في وحدتها التي تمتزج بالأرق وفوضى الروح .
ثالثهما : (ق) نون نسوة جيدة ، مستوى آخر اجتماعيا وطبقيا.. حتى أن طبيعة أزمتها طبيعة نوعية، ممثلة في تخطيها من التعيين كمعيدة لحساب آخر ذكر يرتقي عنها اجتماعيا وطبقيا فهو ابن استاذ الجامعة.. هي تلك المعادلة العبثية .. ولكنها تنتمي للواقع وتجسده.. أكثر مما تنتمي لأزمة الأفكار والفلسفة ، الا ان الكاتبة لم ترد أن تجردها كل التجريد من الطابع العام والأفق الذي تتحرك فيه القصة (أفق أزمة الذات الداخلية أياً كان مصدرها) فجاءت بخاتمة فقرتها على لسان الضمير الجمعي : “قالوا : أن تجد حلا” لمعادلة عبثية أن تسلك نفس العبث” ، لتضعنا الكاتبة ثانية أمام المعاني الكلية .. أمام عمق تحليل الأزمة وتجريدها من واقعيتها .. فالضمير الجمعي الذكوري ينحرف بالأزمة نحو حل ينتمي إلى الفلسفة .. إلى معني وجودي (العبثية) !
(3)
…ثم تخرج بنا الكاتبة خروجا قطعيا من حكايات بطلاتها عبر ما يشبه آلية (القطع في السيناريو السينمائي) لتعود بنا للمشهد الأول لتلقي لنا بختامه .. لتختتم الحدث الواقعي لثلاث نسوة في قطار أعرج يحتلع الذباب كراكب أبدي لا يصل إلأى محطة ولا يغادر الرحلة.
(4)
ومما سبق يمكن أن نستكشف أن النص يتكون بنائيا بصريا من ثلاث قطع: الأولى، والأخيرة، .. وما بينهما ثلاث حكايات لثلاث بطلات غير مشخصنات ..
كما يمكن أن نستكشف أن بالنص عالمين.. أحدهما مسيطر سيطرة كاملة على النص وهو العالم الداخلي النفسي الوجداني بمسحة فلسفية، والآخر واقعي عياني متجسد، ومن بينهما وشائج خلقتها الكاتبة ببساطة آسرة كخيط المسبحة اللاضم .
هذا ما كان ..
فهل تلمسنا معا ان ثمة ضرورة فنيه لتصدير النص بعنوان صادم كـ ( الذباب )؟!
أقول: نعم.
كان ثمة ضرورة فنية لتلك العنونة.. تلك الصدمة ..إذ يبدو لنا النص ـ ظاهرياًـ مهتما بإبراز القضية النسوية ممثلة في ثلاثة نماذج لنون النسوة.. بينما عمق هذا النص هو (الذباب)، فالنص ـ وكما قدمته الكاتبة لناـ هو نص الذباب لا نص النسوة ـ ويؤيد ذلك تقديمهن عبر ترميز أسمائهن لا عبر تشخيصهن .. أما الذباب فقد خلقت منه الكاتبة هلالين كبيرين أولهما في العنوان وحضوره في المشهد الأول (حصار من الذباب المتصارع)، وثانيهما في ختام النص (بينما الذباب قد افترش المكان للمبيت) بدلالة مضمرة مبطنه ذهنيا، وبادية على مستوى كتابي لفظي، فالذباب كان هنا في عربة القطار المتهالكة متصارعاً على (وحول) تلك الراكبات.. وظل في الختام (هنا) ليبيت في انتظار ضحاياه مجدداً في رحلة أخرى لا تنتهي.
دمياط في 6 أغسطس2022
التعليقات مغلقة.