تفاحة نضرة …
فادية حسون
رأيتكَ تسكنُ مع عائلتك في عمارة على شكل حدوة الحصان ، وطابقك فيه عددٌ من الشقق ، وحين خرجت زوجتُك مديرةُ مدرسة التقدم مع أولادها لتوصلهم الى كلياتهم في الصباح الباكر، ثم تلتحق بمدرستها ، بقيتَ انت وحدك لأنك متقاعدٌ عن العمل ، وما أن أنهيت إفطارك الذي استغرق ساعتين حتى سمعتَ طرقاً على بابك كأنه من بحر الرجز .. فاسرعتَ فاتحاً بابك ، فإذ يطالعك وجهُ شابة في غاية الجمال ، تحمل سلتين صغيرتين فيهما تفاحٌ وبرتقال ، ومن ابتسامتها ينطلق جمهورٌ من الفراشات الربيعية ،ألقت تحية الصباح بوجهها الذي يطفح بالنّور والحياء…. فرددتَ أنت وهرعتَ لتلتقف السِّلالَ المكتظّة من يديها الغضَّتين .. خشيةَ أن يتقوّسَ متنُها الضَّعيف …ناديتَها بلطفك المعتاد : من أنت ياابنتي ؟ وماالذي جاء بكِ إلى منزلي ؟
قطّبت حاجبيها وانخفض بريقُ عينيها حين رأت ملامحَك تتنكر لها وهي الفتاة التي أُغرمت بك قبل سنتين حين كنتَ معلّماً في ثانوية قريتهم…
قالت لك بعد أن ابتلعت غصَّة اجتاحت حلقها فجأة : أتذكرُ شجرة البرتقال بجانب بيتنا ؟ حين كنت تزورنا ونجلس في ظلها.. أتذكر كم كنتَ تعشق ثمارها ؟ .. هاأنذي أتيتك ببعضٍ منها.. وقطفت لك سلة من التفاح الأحمر الشهي الذي كنتَ حين تقضمه تقول عبارة العالِم نيوتن الشهيرة : ( وجدتُهاااا ) ..
حاولتَ استحضار ذاكرتك الهرمة قبل سنتين.. فابتسمتَ في سرِّك حين جالت مخيلتُك في تلك الفسحة الجميلة من حياة الريف والتي قضيتها مع أناسه الطيبين.. تذكرتَ جيداً وجه تلك الفتاة التي فقدت والدها في الحرب.. كانت تلاحقك بنظراتها الحالمة.. لكنك كنت تدرك تماما أن الفتاة قد دمّرتها حادثة فقدِ والدها سندها وكتفها العظيم.. الأب الذي كانت تلوذ إلى حضنه المليء بالحب والحنان…
كنت كثيراً ما تحاول إفهامها بأنها في مثابة ابنتك الكبرى وأن شعورها تجاهك مجرَّد شعور نقصٍ بسبب غياب الأب .. لكن الفتاة أغلقت عينيها عن العالم إلَّا عنك.. وأصمّت أذنيها عن الخلائق كلها إلا صوتك حيث كانت تستعذب حروف اسمها حين كنت تناديها به….
جلستَ على الأريكة وأطرقتَ مليّاً..
قالت لك بكل ثقة : لقد أصبحتُ طالبةً في الجامعة.. وقد استدللتُ إلى منزلكم عن طريق مدير المدرسة.. وجئتك طالبةً أن تكون عيني التي أُبصر بها في هذه المدينة المزدحمة والكبيرة… فأنا لا أعرف أحداً هنا إلَّاك..
اجتاحت موجةٌ من الحيرة قلبَك الطيب.. إذ كيف لك أن تبرر لأسرتك سبب ولوجِ هذه الفتاة إلى عالمهم.. وكيف عليك أن تساعدها دون أن تتفجَّر عواطفُها نحوك من جديد ..فقلب الفتاة لايزال غضّاً.. وأنت رجلٌ محترم.. تقدّس أسرتك.. ولك مكانتك الاجتماعية الكبيرة..كان جمالُ الفتاة القادمة من الريف بخديها المحمرَّين من شفق المغيب.. وعينيها المكتحلتين بسواد الليل.. وبشرتها النقيَّة السمراء المستوحاة من شمس الحقول .. وقوامها الممشوق كغزالة برِّيَّة… كل ذلك كان كفيلاً باستثارة غيرة نساء الأرض قاطبةً ..
جلستَ وقد أُسقِطَ في يدك.. وأنت تنتظر زلزالاً قادماً مع انتهاء الدوام المدرسي قد يدمر المبنى بمن فيه …
مضت ساعتان زمنيتان ثقيلتان على قلبك المفعم بالانسانية والوجل معاً … راعك صوتُ أقدامٍ صاعدةٍ على درج المبنى.. كانت ضربات قلبك تتزايد باضطراد كلما اقترب صوتُ خطوات المديرة الصارمة من باب المنزل.. كان صوت حزمة المفاتيح يُحدِثُ ضجيجاً أرعنَ في كيانك المتخلخل ..
لم يكن شعورك خوفاً بقدر ماكان عجزاً عن التبرير… لكنك اتَّكلت على الله أولاً .. ثم على فراسة زوجتك التي تعشقها وتعشقك والتي تعلم مدى إخلاصك لها على مدى العمر ..
فتحت الباب بمفتاحها الخاص.. أخفضت نظارتها قليلاً لتنظر من فوقها بحاجبين مقطَّبين استغراباً .. ألقت التحيَّة مترافقة مع ألف إشارة تعجب واستفهام ثم ابتسمت للضيفة الجميلة وهي تصافحها مرحِّبة بها بكل ما تحمل النساء من كيد ومكر … ودون أن تسألها من تكون ؟ أشارت إليكَ : هل شربت ضيفتنا القهوة ؟ ..
قلت لها وقلبك يخفق بالاطمئنان : لا بل انتظركِ لتصنعيها أنت بيديك المباركتين ياحبيبتي…
- هذه الفتاة إحدى طالباتي في القرية وجاءت اليوم لتساعدها ابنتنا ( نورا ) للتسجيل في الجامعة ولتؤمِّن لها سكناً مناسباً …
أدركت الفتاة على الفور أن قلب ذاك الرجل الطَّيب مازال محافظاً على حبه القديم .. وقد ساهمت خطوات زوجتك الواثقة وهي تتجه نحو المطبخ في إضرام نار قلبها حنقاً وغيظاً..
فتمتمت بصوت مفجوع مصحوب باستكانة عجيبة : شكراً لكَ أستاذي الطيب..
أمسكتَ بيدكَ تفاحة حمراء نضرة.. مسحتها بكفَّيك كعادتك حين تأكل تفاح الريف .. وأدنيتها من فمك وأنت تقول مبتسماً : وجدتهااااا …
التعليقات مغلقة.