تلاعب الريح

محمود حمدون

قائمان من حديد صلب يتجذران بعمق الأرض , يمتدان لعنان السماء , بينهما مسافة شاسعة على مدى البصر , بين قمتيهما يمتد حبل غليظ مجدول باحكام.
تلك دنيا وحياة ” صبري ” ذلك الراقص على الحبل , مهنة لا يجيد غيرها , قد ورثها عن أبيه والتي انحدرت بدورها إليه عن آبائه الأقدمين, وظيفة تستلزم مهارة التعايش مع الخطر ومنادمة الموت , وقد اختلف ” صبري ” عمّن سبقه بهذه المهنة في زهده في المال فما كان يرقص إلاّ بوازع من إيمان بما يعمل وعقيدة تشرّبت بها روحه, فلم يقترب يومًا من سلطان أو سعى وراء منفعة زائلة. كانت مقولته الخالدة التي ذهبت حكمة تلوكها الألسن فيما بعد : ” أرقص كما تشاء لكن أخلص في رقصك ولا تنتظر أجرًا من أحد”
هكذا ارتفع ” صبري” بين الناس برقصه , ارتفع في عيون القوم بمكانته بين القمتين وبيده عصا طويلة يزن بها نفسه كلما قطع المسافة بين القائمين .
حتى يوم طلعت فيه الشمس مبكرًا, أبَى القمر غاضبًا أن يذهب مع العتمة , فاستوت الآيتان في السماء, إثر ذلك تقوّس الحديد فلان بعد قسوة , ارتخى الحبل حتى بات عُرضة لتلاعب الريح , ذاك اليوم أقسم ” صبري ” برأس أبيه الراحل أنه لن يبرح الأرض حتى يبين الخيط الأبيض من الأسود .