تيه المشكاة “2” دراسة نقدية لرواية مشكاة التحدي للأديبة والروائية الأستاذة سعاد الزامك
بقلم الناقد الذرائعي/ كريم عرفان
بين أيدينا الآن عمل إبداعي متميز وراقى للأديبة والروائية الأستاذة / سعاد الزامك ؛ والذى تناولناه بالبحث والدراسة في السابق وقلنا عنه أنه بمثابة الجسر بين الحكايات العجائبية العربية أو ما اصطلح على تسميتها ” بالواقعية السحرية ” التي اقتبسها الأدب اللاتيني من التراث العربي وأبدع فيها ؛ وبين الرواية الواقعية ..فهذا العمل الروائي هو نقطة تماس بين الواقعية السحرية والرواية الواقعية ..أو إن شئت فقل بين الأسطورة و الواقع ؛ وقد تحدثنا في الجزء الأول عن الجانب الأسطوري واستفضنا فيه وبقى أن نتناول الجوانب الأخرى في هذا الجزء الثاني ..وقد سميناه “بالتيه ” وذلك لأن الأديبة قد صنعت ما يشبه “لايبرنث أدبى ” “Labyrinth ” أو متاهة أدبية تحوى ممرات وطرق لا يهتدى فيها إلا النقاد المتمكنون أو القراء المتعمقون أولئك الذين استطاعوا التعامل جيدا مع هذا العالم الخاص بالمشكاة فهو عالم فريد له مفرداته ولغته الخاصة؛ وإننا نزعم أننا في هذه الرؤية النقدية قد قدمنا بوصلة تهدى القارئ وتنيره طريقه في هذه المسالك الوعرة التي صنعتها الروائية بتمكن يحسب لها خاصة أنه العمل الروائي الأول لها .
العوالم الموازية :
هذا العمل الذى بين أيدينا يتسم بالعمق وتشابك الخيوط الدرامية بدرجة كبيرة فهو بحاجة إلى بوصلة ودليل وليس من المبالغة لو استعان القارئ بخريطة مكتوبة تقوده في تلك المتاهة الأسطورية المصنوعة بإحكام والتي أطلقنا عليها “التيه”.. ذلك “التيه ” التي صنعته الاديبة عمدا بما تميزت به من “حاسة روائية “تدعو إلى الإعجاب لا سيما أنه العمل الروائي الأول لها ؛وكما قلنا في السابق فإن الكاتبة قد اختارت الطريق الأصعب لاكتساب لقب روائية فعمدت إلى تشبيك العوالم المختلفة والخيوط الدرامية بحيث يظل القارئ منجذبا طيلة الوقت إلى هذه الرواية حتى يفرغ منها ثم يعيد قراءتها مرات ومرات حتى يكتشف في كل قراءة وجها ومعنا جديدا؛ ولا يمكن بأية حال الوصول إلى حقيقة المشكاة والتعرف على كنهها وسبر أغوارها دون التعرف على العوالم الموازية التي صنعتها الكاتبة بتمكن واقتدار ..
وهذه العوالم هي :-
1- “عالم السياسة” الذى كان له حضوره البارز بل بدأت به الكاتبة روايتها فالذي حرك الأحداث جميعها هو ذهاب “دعاء” بطلة الرواية إلى ميدان التحرير الذي أشعل بداخلها الثورة وأججها حتى طلبت الطلاق والانفصال وكان ذلك فعلا ثوريا من جانب دعاء موازٍ ومنفعل بثورة 25 يناير.
2- “عالم الواقع “وهو ذلك العالم الذى تحياه دعاء وتعيشه وهو العالم الذى تسبب في معاناتها وشقاءها فهي عانت من تسلطه وتحكمه وأرادت أن تصارعه تارة وتواجهه أو تحاول الهرب والفكاك منه تارة أخرى وقد بدأت معاناتها من خلال سلطة والديها والمجتمع والتي أدت بها إلى الحياة في شقاء وتعاسة .
3- “العالم الغيبي المفارق “وهو ذلك العالم الذي ( تتمناه) لو قرأنا الرواية قراءة واقعية أو ( تحياه ) حسب القراءة الأسطورية والظاهرية للرواية وهي تعيش في ذلك العالم أميرة مبجلة وريثة عرش ومملكة يحوطها التقدير من كل جانب على العكس من عالمها الواقعي .
4- “العالم الافتراضي” وهو عالم (الفيس بوك ) وقد قالت عنه الرواية أنه ” عالم افتراضي ” وقد خلقت الروائية هذا العالم وأصبح قائما بذاته إلى جانب العوالم الأخرى .
- وهذه هي العوالم الأربعة التي يجب على القارئ أن يعيها ويمسك بخيوطها قبل أن يدلف إلى “تيه” المشكاة التي صنعته الأديبة عمدا .
السلطة :
تحدثنا الرواية عن مدى المعاناة والشقاء الذى تعيشه دعاء في مواجهة السلطة الذكورية والتي يمثلها الرجال الذين يحيطون بها فكل رجل قد دخل مجالها الحياتي قد أذاقها المرارة والهوان ؛ فدعاء قد عانت من تسلط أحمد والدها الذى فرض عليها الزواج ممن لا تحبه .. ثم من تسلط زوجها حسين والذى قامت بالثورة عليه وقد صارعت ذكورته باللجوء إلى القضاء لطلب الخلع..ثم فؤاد الذي اقترنت به من بعد زيجتها وعصام الذي تسلط عليها باسم الحب والعشق ؛ فدعاء قد وقعت فريسة لسلطات ذكورية متعددة السلطة الذكورية باستثناء سلطة أوريون ذلك الملك أو الحاكم في العالم المفارق الغيبي الذى كانت تشعر نحوه بالاحترام والتقدير فكان هو الملجأ لها والحماية لأمنها وسلامتها ومصدر عزتها ..
ويمكننا مقارنة أوريون الحاكم في العالم الغيبي بالحاكم في عالم السياسة فهناك تشابه كبير بين الشخصيتين فكلاهما كان يعتلى سدة الحكم وكلاهما تعرض لثورة ضده أطاحت به أو اجبرته على التنحي .
الحضور (الذكوري – الأنثوي ) :
الحضور ( الذكوري –الأنثوي ) موجود بأكثر من صيغة وأكثر من شكل ؛ فمن البداية وعند مشاهدتنا الغلاف يتمثل أمامنا صيغة رمزية لوحة خيالية تمثل ثورا أسود يمسك بفتاة خجولة وذلك ما يرمز إلى السلطة الذكورية “الغاشمة” التي تعاني منها دعاء بطلة الرواية فقد صورت تلك السلطة على هيئة ثور يمثل القوة الغاشمة والعناد,والشهوة المفرطة تمثل ذلك في الثور الذى يسيطر على تلك الفتاة المسكينة الخجولة وهو للوهلة الأولى يبدو كرمز “مطلق ” ولكن عند التأمل سنجد أن ذلك الوصف جاء في حق أحد أزواجها وهو فؤاد فقد ذكر ذلك صراحة في الرواية “( تفاقمت ثورة فؤاد وصار كثور انفك عقال أسره في حلبة مصارعة ) وإن كان الحديث بشكل يبدو بشكل عارض إلا أنه يمنح انطباعا قويا بخصوصية “فؤاد ” إلى حد كبير لا سيما ان الأديبة عودتنا على خصيصة هامة في أدبها فاختيار الأسماء لا يتم بشكل عشوائي وإنما يتم وفقا لتمكن لغوى فالفؤاد في اللغة هو “القلب ” وذلك يدل على مشاعر خاصة تكنها دعاء نحو فؤاد .
مثل اختيار اسم “عصام” وهو اختيار له خطورته فهو اسم يحتمل التذكير والتأنيث وفى ذلك تقدير باطني للأنثوية من جانب الروائية .
كما ظهر معظم الرجال في الرواية بشكل غير إيجابي فكلهم قد أذاقوا دعاء الويل والعذاب وكلهم زناة خاطئون لاهم لهم إلا شهوتهم ..وقد قامت باختزال الرجال الذين دخلوا عالمها كل واحد منهم في صفة معينة في خاتمة الرواية :-
أحمد الوالد = جابي أقدارها
أوريون = عاشق أمها
حسين = الأنانية الغاشمة
عصام = الرومانسية العارمة
فؤاد = غيرته الشعواء
ماحس = انتقامه وفنائه .
فكل الشخصيات الذكورية ظهرت بشكل غير إيجابي في الرواية باستثناء أوريون وهو ما يعطينا انطباعا بأن احترام السلطة الابوية وتقديرها شيء راسخ في ذهن الروائية مهما كانت معاناتها من الطغيان الذكوري .
أيضا “البتولية” و”العذرية” قيمة أنثوية كبرى في هذا العمل الروائي الفريد تحرص بطلة الرواية دعاء عليها ولا تتنازل عنها أبدا فهي تود لو كانت بتولا لا تقرب الرجال ولا يقربها الرجال ؛ فهي ترى في هذه القيمة “العذرية ” الفضيلة الأنثوية الكبرى وتتمثل فيها الطهارة والنقاء والعفة وهى أيضا قيمة موجودة بقوة في الرواية هو سمت يميز دعاء فلمرآها جمال عذري يتضح للجميع وقد حرصت الروائية على ابراز ذلك في أوضح صورة ؛ وكأن الاديبة قد أرادت “أيقنة ” دعاء وجعلها أيقونة ورمزا عذريا .
(الزمكان ) حضور المكان وأهمية السياق الزمنى للرواية :
الإبداع الأدبي ليس منعزلا عن بيئته التي نشأ فيها وليس غريبا على مجتمعه وسياقه الزمني والمكاني بل هو يتأثر بها ويؤثر فيها وهذه الرواية هي خير شاهد على ذلك ..فالتاريخ الذي يحوى الأحداث هو تاريخ هام في العصر الحديث( 25 يناير) تاريخ الثورة التي أسقطت النظام ويحمد للكاتبة أنها قد اختارت هذا التاريخ الثوري ليكون رمزا كبيرا لتحرير دعاء من سيطرة زوجها فهذا التوازي قد أضفى عمقا على هذا العمل خاصة أنه جاء في بداية الرواية ..
“المكان” هو عامل هام جدا في هذه الرواية وهو عنصر لا يقل أهمية عن بقية العناصر الأخرى التي يقوم عليها البناء الفني للعمل فأول مكان يفاجئ القراء هو ميدان التحرير الذي يعد قبلة الثوار وهو الذي شعرت دعاء بمجرد الاقتراب منه ومشاهدته بالثورة تتحرك وتعتمل في داخلها وكأنه صار مصدر إلهام لكل من جاءه ورآه .
المكان أو “المكين ” -إذا أردنا الدقة اللغوية- الآخر الذي لا يقل أهمية عن ميدان التحرير هو المشكاة الضخمة المصنوعة من النحاس والتي يظللها قبة بللورية في تصوير بديع أجادته الأديبة حتى كأننا نرى المشكاة رأي العين أعانها على ذلك حاستها الشعرية والبلاغية والثروة اللغوية التي تمتلكها الأديبة ؛ فالمكان له أهميته البالغة في هذا العمل الروائي .
الاخلاق والعادات والتقاليد المجتمعية :
دعاء تلك الأيقونة والتي تمثل العفاف والصلاح تحافظ على الثوابت المجتمعية والقيم الخلقية الراسخة في المجتمع وعاداته وتقاليده ولا تفكر في محاربتها أو انتقادها بل على العكس تتبناها وتحيا بها بل تكمن مشكلتها الرئيسية ومأساتها في عدم حفاظ الرجال الذين قابلتهم في حياتها على تلك المبادئ الخلقية واحترامها والعمل وفقا لها في حين هي التي تحافظ على نفسها وعلى عفتها حتى وهي في أحلك الظروف ومع تعرضها للمحن والشدائد التي تريد النيل من طهارتها ونقائها تحافظ على تلك الثوابت ولا تتهمها أو تحاول تقويضها أو النيل منها فلم تهاجم قيمة خلقية أو ثابت مجتمعي ؛ فهي بأية حال لا يمكن أن تفرط في مبدأ خلقي تحياه أو تتسم به فهي تتصف بالعفاف والصلاح والتهذيب .وهي تقدر البتولية والعذرية فلا يمكن أن تقع في خطيئة أو ترتكب إثما يجرمه الخلق الحسن والآداب القويمة ؛ وهي بذلك تستحق أن تكون رمزا نسائيا كما أرادات الكاتبة .
كانت هذه رؤيتنا النقدية للعمل الروائي الأول للأديبة والروائية الأستاذة / سعاد الزامك ..قمنا بعمل رحلة استكشافية داخل العالم الذى رسمته المشكاة ..”مشكاة التحدي” وتعرفنا على الكثير من المفردات الروائية والإبداعية للكاتبة ؛ والأديبة تستحق لقب روائية عن جدارة واستحقاق كما أظهرت المشكاة و نتمنى كقراء ونقاد أن تمتعنا بأعمال روائية جديدة .
.
التعليقات مغلقة.