تيه .ق.ق …
بقلم عصام الدين محمد أحمد
تيه
وفجأة قرر السفر إلى الصعيد.
يستريح فوق أحد مقاعد الانتظارالخشبية.
جاور قعدته رجل أربعيني أسمر الوجه، تغطيه لحية كثة متسخة وغير مهذبة، تلبد رأسه في طاقية من الصوف الخشن، عيناه سوداوان مفنجلتان كأنهما تبحثان عن نجوم وارتها الشمس المحرقة، يبادره:
افسح ولا تقترب أكثر.
يا عم أنا على طرف الدكة.
جميعهم يقولون كما تقول.
لم يسبق لي التعرف عليك.
لماذا لا يتقن البشر إلا الغباء؟
سيادتك من أي كوكب؟
كوكب التيه، أسمعت عنه قبلًا؟
بصراحة لأول مرة أسمع عنه.
ألم تزر مجرة العسس؟
لم أغادر كوكب الأرض.
كذاب أيضًا.
يا باشا بالراحة على عقلي.
ألم تجد عمليات الجمع والضرب؟
بل حياتي مؤطرة بعمليات الطرح والقسمة.
تنقصك المذاكرة يا مسكين.
من أنت؟
مجنون آبق من العباسية.
المجنون لا يعترف بجنونه.
هذا ما تقوله كتبكم التافهة.
أتملك كتبًا غير التي نملك؟
كتابي صفحاته بيضاء.
أتحفني بالمزيد.
في نقاطه النجاة، لا شيء فيه سوى السراب؛ أنتم من تصنعون السراب.
أيها العالم الروحاني أتعبتني.
قتم سواد وجهه:
ما في التيه سوى التيه.
تتهادى الحافلة، يلجها هاربا من مناطحة الرجل، المقعد عريض، يتيح قعدة مريحة، تستهويه مشاهدة الطريق وهو ينطوي تحت العجلات، تتحقق نظرية نسبية المكان والزمان، لا تدري من المتحكم الزمان أم المكان، تودِّع أناسًا وتستقبل آخرين، وسرعان ما يلحق الآخرون بالسابقين.
مئة ألف حياة أو يزيد في الدقيقة، شريط سينمائي كامل عن البشرية:
امرأة مُغتصبة للتو، شاب يكتنفه الخدر، خناقة في زقاق، الغالب والمغلوب في نقطة الشرطة، سيارة تصطدم بأخرى عملاقة والدماء مسالة على الأسفلت، مأذون يعقد قرانًا، وآخر يوثق طلاقًا، أولاد وبنات يخرجون إلى الحياة، شيوخ وكهول تحملهم الأعناق إلى مثواهم الأخير، مشاحنات بين زوج وزوجة، أرزاق تُنتزع من هنا لتهبط هناك.
عمارات تناطح السماء، بيوت تقبرها الأرض، أضواء النيون تُزين الدروب، ظلام كالح، بائع بقالة يجاوره قصاب، وفي الحارة المجاورة مخبز ووابور طحين.
شوارع مدككة بالسيارات، مواكب عُمد وشيوخ خفر، مقاهٍ مبثوثة في شتى الأرجاء، أبقار وجواميس في طريق العودة، حمير يمتطيها الصبيان، همسات عشق خلف الجدر، علاقات جنسية تصحبها متعة، ارتخاءات، انتفاضات.
خطيب يحث ندماءه على التوبة، كنائس تحرسها مدرعات ، قضاة تطمسهم الضمائر:
ما أكثر المظاهر التي يمكن تأويلها!
ها أنت تتذكر الأربعيني ثانية لتهمس في أذنه:
ألم تطهرك المشاهد بعد؟
ربما يرد بقوله:
تغمسون وجوهكم في دلو المشاهد المعصورة ذات النكهة اللاذعة.
ها هي الحافلة تلج الصحراء، تخترق آيات الحياة:
عبد يتدثر كهفًا صخريًا، يتأمل الطبيعة، يلهث خلف الحقيقة، وعلى مبعدة أمتار مُطَارد يشيد مملكة من الحصون الصخرية، ينشر النواطير في شتى الاتجاهات، يرسم نموذج مجتمع القنص والمتعة، زجاجات خمر فارغة ملقاة فوق الكثبان والرمال، يختبئ في جنباته كل من ناوأ النظام، وفرض أوامره ونواهيه، لا يعنيه لفظ المجتمع له، فالمجتمع في عقيدته مريض وغير سوي، ولن يُجدي في تأديبه سوى البندقية.
يهاجمك الأربعيني ببزته الرخيصة صارخا:
أين بندقيتك يا متعوس؟
لا أملك سوى قلم رصاص.
يعقب:
خائب ولن يسعك أطار اللوحة.
تمخر الحافلة عباب الفراغ، تقتل المكان بمدية الزمان، تتناوبك الأنواء، تطرحك الطموحات أسفل أقدام الحاجات، عمل يعقبه عمل، طعام وشراب ولحم أنثى:
أتعتقد في نفسك القدرة على الخلاص؟
مجرد أوهام تكابدك، ينفرك التقييم، ستظل دومًا عبدًا للهلاوس، تمسح عيناي الحركة كأنهما تودان النفاذ خلف المجهول، أدخل خلف الأبدان مخترقًا الجدر، رضا، تمرد، صياح، همس، ثماني ساعات كاملة تصرعني خلف المشاهد.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد
التعليقات مغلقة.