“ثبات مزعوم” بقلم محمد كمال سالم
تجمد هناك أسفل نافذتها، يشعل سيجارة فور انتهائه من أخرى, الشارع يئن تحت وطأة المحال والمارة، شاخصة عيناه صوب الضوء المتسلل من خلال شيش نافذتها، غير عابئ بالزحام من حوله، كذئب يترصد فريسة شاردة.
كان الناظر إليه لا يستطيع تحديد عمره، صدره المنتفخ بصورة متكلفة، عيناه الجاحظتان كأنهما لم يعرفا للنوم سبيلا، سحجات سطحية دامية فوق صدغه الأيسر، ثبات مزعوم، إعلان جرأة كاذبة خادعة، لا يلحظها إلا خبير،
إذا نظر المار إليه يظنه رجلا كامل النضوج.
ارتاب في مكوثه الطويل أحد أصحاب المحال، ذهب إليه مخاطبا:
(إنت واقف هنا ليه؟ وعايز مين؟!) التفت إليه في كبر، لم ينطق بكلمة، أخرج مطواة من جيبه الخلفي، فتحها بمهارة وسرعة، أشهرها في وجه الرجل بطريقة سينمائية، غادره الرجل خائفا ولم يعقب. استند بظهره إلى الجدار, أسفل النافذة المنخفضة من الدور الأرضي المرتفع, وراح يتمتم بصوت خفيض كأنما يحدث نفسه: سأظل واقف هنا إلى أن تخرجي, سأعرفك كيف تهجريني أنا، وتبيتين في حضن هذا الجلف!
سأجبرك أن تهجريه وتعودي إلي, لن تتذرعي بعد الآن بقلة المال, وقد أصبحت قادرا على الوصول إليه بكل سبيل, سأقتل لك هذا الجلف الذي أويت إليه إن لم تنصاعي إلي, أو أقتل صغيرك منه الذي تدللين, وألقيتني أنا في مهب الريح, كنت بالأمس محموما أنتظر ضمادتك الباردة تعالجني، نسيت للحظة أنك ما عدت هنا. سأحرق فؤادك عليهما, وأقف أشاهدك تذرفين الدمع, تتوضئين من تراب القبور, تتذوقين طعم المر في حلقي، سأكسر قلبك لتذوقي طعم الألم, ويغادر النوم جفونك للأبد، نعم سأفعلها، ولن أتراجع كالمرة السابقة حين أشفقت عليكِ.
يخبو ضجيج الشارع رويدا رويدا, وهو مازال على حاله، لم يمل أو تتعب قدماه.
تغلق الدكاكين أبوابها وتتطفئ أنوارها واحدا تلو الآخر، يخبو ضوء الشارع، يشعل آخر سيجارة معه، يلقي بالعلبة الفارغة بطول ذراعه غاضبا،
يستدير لمواجهة النافذة، يسقط نورها المتقطع عرضيا على محياه، محياه الذي بدى أكثر غضبا واحتقانا، أخذ منه اليأس مأخذا, أخرج مطواته من جديد, شهرها عاليا بيد، وراح يضرب بالأخري على الشباك الموصد صارخا:
(إنت ياست, اخرجي, اطلعيلي بره هنا انت وابنك الحيلة, اخرجي, وريني وشك.)
يفتح الشباك بسرعة عنيفة, تصطدم ضلفتاه في الجدار محدثة صوتا عاليا، تخرج امرأة متلهفة،صكت وجهها: ابني؟! ( مش اتفقنا تفضل عند ابوك؟)
يظهر خلفها رجل ضخم يصيح في الشاب:
(إنت جاي هنا ليه يابن ال…….عايز إيه يا حرامي؟)
في نفس اللحظة, يعود صاحب المحل الذي كان يسأله عن سبب وقوفه الطويل, وفي صحبته رجلان من الشرطة:
_(هو ده البلطجي يا باشا, اقبضوا عليه.)
يعود الشاب لينظر لزوج أمه، يقول بصوت مهزوم يرتعد:
(سجايري خلصت, هات سيجارة)
التعليقات مغلقة.