ثنائية الإلهام والعزف على الناي قراءة في ديوان ” رعشة ناي ” للشاعر جمال صابر
الرعشة والناي :
الناي …تلك الآلة الموسيقية الشرقية العتيقة التي ارتبطت بتراثنا العربي القديم أشد الارتباط ، واستمرت حتى يومنا هذا كآلة أساسية في التخت الشرقي حيث تتناغم كثيرا مع المقطوعات التي تتميز بطابع الحنين والأنين ؛ لما في صوت الناي من نغمة شجية كثيرا ما تبعث على الغرق في الماضي وما فيه من ذكريات … وقديما تغنى جلال الدين الرومي بالناي وله قصيدة شهيرة جدا تحمل نفس العنوان ، والشدو والإطراب لايكون من الناي إلا إذا كان فارغا من الشوائب ليسمح بمرور النفس المبثوث… والرعشة لا تكون في جسد الآلة نفسها …إنها تكون مع الأنفاس التي يبثها عازف الناي عند استخدامه… وهذا هو المعنى الظاهري للعنوان ” رعشة ناي ” ، فماذا أراد الشاعر بهذا العنوان ؟
بعض العناوين تشي بما سنقرؤه مقدما أي قبل البدء بعملية تلقي النص المكتوب – أيا كان جنسه الأدبي – والبعض الآخر يجعلنا نغرق في عمليات التكهن فنترك المغزى أو الغرض منه حتى النهاية ، أي بعد انتهائنا من القراءة ، وإذا عرفنا أن الناي هو رمز قديم للشوق والحنين وأن الرعشة حالة تعتري الإنسان فتصيبه بالاضطراب والتغير المؤقت فإنها هنا عندما تصف شاعرا ستشير إلى حالته أثناء عملية الإبداع والناي سيكون رمزا للشاعر الحزين المثقل بالهموم الذي يعزف موسيقاه الحزينة في صورة قصائد وكلمات وحروف…..
ومن قراءتنا للديوان سنشعر بأن الشاعر يصبغ قصائده بطابع رومانسي حزين ، لكنه لا يقصد إليها قصدا فيما أراه بقدر ماهي مدخل ملائم لبث حالة الحزن والألم ووصف عمليات التخبط النفسي والصراع الداخلي الذي يعاني منه كشاعر ، كما أن ترتيب القصائد وتنظيمها داخل الديوان يعكس لنا إصرار الشاعر على نقل صورة بعينها لنا من خلال قصائده ، فالقصائد السبع الأولى جاءت مرتبة بحيث ترسم لنا خطا تدريجيا يبدأ بوصف حالات العشق التي مر بها ، بدءا باللحظة الأولى التي عرف فيها معنى الحب في قصيدة ” ولد وبنت” ومرورا بقصائد “لحظة ” التي يصف فيها لحظة الأمل والاستعداد لخوض التجربة ، وقصيدة ” أنقاض ” التي يصف فيها لحظة الفراق نفسها والمعاناة التي لا تنتهي ، ثم نراه يبدأ في رحلة الحنين إلى الماضي والعودة للذكريات في قصيدة ” للبحر بعض الذكريات ” ، ويجاهد الشاعر للتخلص من حالة الحنين والألم في ” علميني” :
علميني
كيف أنسى لهفتي
حين الوداع
كيف أمحو من جفوني
طيف حزن والتياع
لا تقولي :
ذات يوم سوف ننسى
هل سأنسى جرح قلبي أم خداعي؟ ()
إنه يعتصر ذاكرته المرتعشة على نغمات الناي الحزين، ولكنه رغم الإخفاق ولحظات الخذلان المؤلمة نجده لا يفقد الأمل فيسير بنا الخط التدريجي لهذه القصائد من حالة الهبوط إلى حالة من حالات الصعود النفسي التي ينميها الشعور بالأمل لدى الشاعر والاستعداد لخوض تجربة جديدة يسجلهما في قصيدة ” رومانسية ” ولكن أهي تجربة حقيقية على الصعيد الوجدانية ؟ أم أنه يستقبل هنا ربة الشعر وقد اشتعلت نيرانها في داخله وبعثت به من جديد؟ :
من أي بحار العالم
تخرج جنية بحر؟!
تتزيا كل قلائد عمري
تعشق أصدافا.. أعشقها
لا شك أنها ربة الشعر ولاشك أنها لحظات الإلهام بوميضها المباغت الذي لا يمكن التنبؤ بميعاده مطلقا والتجربة الإنسانية تؤججها وتساعده على إنباتها من جديد :
وتشير إلى ركن أُهمل فِيّ
وترمي فيه بلؤلؤةٍ
يخضرّ… يفوح قصائد من عشق
ثم تباغتني..
غدا ألقاك بنفس الشاطىء
في هذه القصيدة التي أقترح أن يسميها الشاعر ” جنية البحر” لأن العنوان ” رومانسية ” شديد العمومية ، نجده يرصد لنا حالة الخفوت التي كان يمر بها وكيف أن معايشة التجارب صعودا وهبوطا من شأنها أن تبعث فيه الرغبة في كتابة الشعر والتعبير عما في داخله من صراعات نفسية وذكريات مؤلمة :
فرياح آذار
استحالت بعض أحلام تموت
وذكريات في الدروب الموحشة
ويصل الشاعر إلى أقصى حالات الصعود والتأهب للكتابة في قصيدة ” بشيء من سنا التأويل ” حيث الإضاءة التأويلية أو لنقل الومضات الوجدانية تبدأ في التمخض ويبدأ الشاعر في قراءتها وتسجيلها لحظة لحظة:
بشيء من سنا التأويل
نمسي اليوم عشاقا
فننقش في جدار الليل
باسم الحب أشواقا
وهو يؤكد على كونها إضاءات وجدانية بتكرار المقطع ” بشيء من سنا التأويل” لثلاث مرات في القصيدة ، وهذه الومضات يؤجج إشعاعها صدق التجربة الرومانسية التي يمر بها الشاعر لدرجة كبيرة :
يذوب يراعي المشدوه
من آهات قرطاسي
ويعلن أنني أهوى
بنار العشق إحراقا
لكن التجارب الرومانسية ليست وحدها المحفز الوحيد لكتابة الشعر في هذا الديوان وإنما ركز فيها الشاعر على بعض المشاهد المعينة التي تتلاقى ومشاهد حية قديمة …. تلك التي لا يمحوها ترياق النسيان والتي تشتعل نيرانها في الذات الشاعرة كلما عصفت بصاحبها تجربة حياتية جديدة ، فهو كالناي الحزين المثقل بأنات الحنين لجذوره التي اقتلع منها وكلما عصفت بتجويفه الأنفاس نطق بوحي من حرارتها واستدعى تقنيات بوسعها أن تعبر عن مكوننه الدفين.
تقنيات العزف على الناي
استدعاء فكرة الرحيل والفراق :
عندما كنا نرصد حالات الهبوط والصعود النفسي للشاعر في القصائد السبع الأولى كنا نلمح حوارا خافتا عن الفراق وعن الرحيل الذي يزعجه كثيرا ويرفض الاعتراف به بسهولة :
أنا لن أقول إلى اللقاء حبيبتي
فمتى عهدناه يجود ؟!
شرع الزمان حبيبتي
من فارق الأحباب يوما
لن يعود
إنها معاناة حقيقية تلح على وجدان الشاعر :
لا تسلني كيف يا قلب
الهروب
قد كفانا من زمان لا يرِقُّ
أننا نحيا ولكن
فوق أنقاض القلوب
لم يعد يكترث ، ولم تعد لديه الرغبة في معرفة طريقة للهروب واكتفى بالحياة ” فوق أنقاض القلوب” وفي التعبير السابق ندرك مقدار الخيبات التي تعرض لها الشاعر ومعاقرته لمرارة الفراق وعدم الاستقرار ، ونراه يؤكد على ذلك مرارا وتكرارا :
تسألين
وقت أن حان السفر
أين عزم المستقر؟
إننا كغيوم
في ارتحال لا نهائي
بأكناف القدر
إن مرارة المعاناة تدفع ربة الشعر دفعا في محاولة للظهور والتسجيل لكن الناي ( الشاعر) لا يقوى على التسجيل بدقة فقد رحل كل شيء:
تضيع القوافي بكل الدروب
يخاصم سحر العيون النساء
فبعد رحيلك
لا شيء يبقى وبعدك كل النساء سواء
ويجدر بنا أن نتساءل الآن : لماذا يلح الشاعر في التعبير عن هذه الفكرة ؟
في بداية الديوان قدم الشاعر إهداءه إلى أمه ” عصفورة ظلت تقاوم الجراح..وتحلم بالربيع .. ولما حان الحصاد .. آثرت الرحيل ” ثم نصل معه إلى إهداء يخصه ” أنا … الراحل بدمائي ” … إذن هي فكرة ملحة يشي بها كل شيء ، تبعث في وجدان الشاعر الحزين الكثير من الشعور بالأسى والألم وكلما حاول الهروب منها أطلت عليه لتنبعث من جديد في داخله فتتلاقى لحظات الفراق القديمة باللحظات الجديدة وتنكأ الجراح التي كان يظنها التأمت من جديد وهنا تتدخل ربة الشعر لتعينه على التحمل بالتنفيس عما يشعر به في صورة شعرية….
ولهذه الفكرة .. فكرة الرحيل والافتراق صور عدة في الديوان تبقى أصدقها وربما تكون الصورة الأساسية التي تلح على ذاكرته بشدة هي لحظة فراق الأم ( لوزة ) .. والأم هي الوطن الأول لأي إنسان على وجه الأرض ، وفي أحضان الأم ( الوطن ) نشعر بالسكينة والأمان ؛ ولهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتعرض إلى فقد أوطاننا وأن نظل هكذا مكتوفي الأيدي بلا أوطان … إنها فكرة عصية الفهم لا تستوعبها براءة الأطفال الصغار :
راحلة أنتِ على مضض
والقافلة الجوابة
لا تعبأ بتراب يتناثر تحت الأقدام
لكن الصبية
إذ يقتمسمون الحزن وأرغفة العيشِ مساء
يعتقدون بأن الراحل سوف يعود
يحمل كسرة خبز للجائع
وربيعا للعاري
وثيابا وهدايا للعيد
إنه يرسم بشيء من التفصيل لحظات البراءة والأحلام الصغيرة في تلك المجتمعات البسيطة ، فهم لا يستوعبون فكرة الموت ولا يدركون معناه الحقيقي ولهذا نراهم مغلفين بيساج الأمل البريء:
وبأن الطائر ذا الألف جناح
حين يرى حزنا يتبرعم في أعينهم ودموعا
سيحط على سطح الدار بمن عشقوه
يعتقدون بأن الراحل سوف يعود
لوزة
لقد فقد الشاعر وطنه الأصغر في سن مبكرة وعليه أن يفتش عنه في أحضان وطنه الأكبر عله يتخلص من الأفكار الحزينة القديمة وعله يجد بديلا لما فقده … إنها الحاجة إلى السكن وإلى الشعور بالأمان والطمأنينة لكن فراشات الليل تأبى إلا أن الشعور بالاغتراب داخل الوطن زاد من أساه وأصبح عاجزاعن تحقيق أحلامه فيطلق لنفسه العنان نحو التشتت اللانهائي في قصيدة ” الرحيل إلى المنفى ” حيث المجهول يقف أمامه في مملكة الأحياء وحيث الموت يزحف إليه متسللا ومصدرا هسيسا خافتا … إنه منسي ومنفي ذلك الناي الذي شرب من ماء النيل ونبت جنبا إلى جنب أشجار النخيل … إنه حزين والأحزان تؤرقه :
تتقوقع أحلامك
خلف ركامات الزمن الموبوء
وتنساك الأيام
تدهسك إطارات السيارات الفارهة
وصوت البؤس المقهور
يقاسمك الحزن الساكن قلبك
لقد تحول داخله إلى مكان خرب وأخذته الأحزان الحاضرة إلى استدعاء أحزان قديمة وأصبح وجدانه يعاقرها جميعا وأصبح يبحث عن المكان الذي نفاه الجميع إليه فلم يجد سوى الظلام … إنه منفي في داخله وهو أصعب أنواع النفي والشعور بالوحدة والاغتراب بين الناس وأصبح يرى أناه من الداخل وقد تجردت من كل شيء وأصبحت تستأنس :
وبوم الليل استهواك
فعشش في أرجائك
صرتَ المنفيّ بلا منفى
الآن احترقت كل صواريك
انتحرت كل مرافئك
وغارت كل مناراتك
وفتحت الأبواب الموصدة
لم يفض البهو المظلم
إلا للمنفى
فالبوم لا يعشش إلا في الأماكن الخربة ، لقد تسربت أمانيه وطموحاته إلى غير عودة ووجد نفسه يسير في طريق لا يؤدي إلا إلى المنفى … أهو إجباري هنا أم اختياري ؟ إنه إجباري حتما فرضته عليه ( ركامات الزمن الموبوء) …. ويزداد الشعور بالغربة والرغبة في الرحيل إلى المنفى الاختياري بفراق المحبوبة في قصيدة ” لقاء الرحيل ” حيث يصور فيها الشاعر دراما الوداع وكأنها جنازة للحب القتيل تشيعه ألوان الغروب الحزينة ودموع محبوبته موشحة بألوان الشفق الأحمر الذي يحتضر على يديه آخر شعاع للشمس في إشارة من الشاعر باختلاط الدوع بالدماء وبأنها الثواني الأخيرة قبل تحقق لحظة الفراق ، والشاعر يدرك بمرارة كبيرة أنه الرمق الأخير والمفارقة الكبرى أنهما التقيا لا ليجتمعا كما يحدث عادة وإنما ليفترقا ويرحل كل منهما عن الآخر :
من وهلتي
أيقنت أن لقاءنا هذا
ويا ويحي
هو الرمق الأخير
وعجبت من حكم القضاء
فلقد يلملمنا ولكن للرحيلْ
لكن فكرة الرحيل والفراق والشعور بالغربة ليست وحدها الأيقونة التي تؤجج رغبة الناي في العزف ، هناك أيقونة اخرى تتآلف وهذه الفكرة لتستحيل ألحانا شجية أو قل قصائد حزينة يبوح بها الناي.
العزف باستخدام أيقونة الذكرى:
تمثل الذكريات في هذا الديوان حافزا كبيرا يدفع الشاعر إلى كتابة الشعر وبث ما يشعر به من حنين إلى الماضي ببراءته أو أنين جراء عملية فَـقـْدْ تعرض لها ، إنها تعمل عمل الأشباح التي تطارد صاحبها في الظلام كالناقوس المزعج الذي يشعل النيران في قلبه المتعب فتتوهج آلامه حروفا وكلمات :
هذا أنا
وهجٌ على حد الجراح مسافر
لي ألف أغنيةٍ
تعشش في فراغ الريح
لي وحدتي …ونزيف قلب سوسني
إنها الذات الشاعرة تعاني من الوحدة والضياع في ( فراغ الريح ) والقلب قد اصطبغ بألوان زهرة السوسن الحزينة ومن فرط وحدتها أخذت تفتش في ألبوم الذكريات..فأي نوع من الذكريات ستستدعيه لتخبرنا عن معاناتها ؟
للذاكرة عند الشاعر عدة مرافىء ينهل منها حيث الذات الشاعرة تعيد تسجيل المواقف الجديدة وتربطها بالمواقف القديمة باعتماده أسلوب استرجاع الذاكرة مع ملاحظة أنه لا يمكن استرجاع جميع الذكريات … إنها تسترجع فقط تلك التي تركت أثرا عميقا ونقشته في جدار الروح وتركت بصمات أبدية ، وكلما عصفت بالشاعر رياح مؤلمة جديدة استيقظت ذكرياته القديمة ونشب في داخل ذاته ( أنا الأنا ) صراع كبير ، فالأفكار تتزاحم والرؤى تتداخل وأصبحت حالات عدم الاستقرار والشعور بالتشتت والرغبة في الرحيل والعودة إلى زمن البراءة والطفولة هي الأفكار المسيطرة على وجدان الشاعر.
إنه الصراع الداخلي الذي يفتت الشاعر كالأمواج التي تتلاطم في البحر أو تتكسر عند صخور الشاطىء إنه يصل إلى أقصى مراحل التعبير عن سطوتها وسيطرتها على وجدانه في قصيدة ” للبحر بعض الذكريات ” :
للموج أن يشتاق حضن البحر
عند تكسر المد العنيد
على صخور الانتحار
للرمل أن يختط بعض الذكريات
على دروب الانحسار
فتخيري أي الشواطىء
وادخُليني
أبحري بين المرافىء في دمي
إنه يبحث عن حب ينسيه حالات الحزن والأسى التي مر بها وكل الذكريات لتي يحتفظ بها ولكن هيهات فأيقونة الذكريات تتقاطع وفكرة الرحيل والافتراق وتتفقان على مشهد واحد :
للذكريات حديقة
شفق المساء
شمس الغروب
ودمعة عند الرحيل
يستسلم الشاعر للحزن ويعود إلى ذكرى والدته في ” بكائية اللوز ” إنه يستدعيها وهو يحتسي قهوته ذات مساء ولكن هيهات :
لا شيء يستبقيك
ذاك القلبُ ولى
في ارتحال سرمدي
هو لا يؤؤوب إليك ينشر في المدى أكفانه
عبر تخوم قلبك
يستبيح الضوء في عينيك دمعا وانكسارا
تلك الدموع ترافق الشاعر أينما ذهب حتى وهو يرحل إلى المنفى:
تلك الأحزان تؤرقك؟!
الآن اتكأت دمعة أمك
فوق جريد نخيل الشط
انكفأت أشجار الصفصاف
تنهدت الجميزة في حيرة
وارتجفت سنبلة كانت تهواك
إنه يتذكرها لأنها بمثابة آخر وطن آمن له …
ويتجلى العزف باستخدام أيقونة الذكرى في قصيدة ” ثنائيات ما بعد منتصف الليل” حيث يبدو فيها الشاعر ( المواطن قليل الحيلة ) مطارادا من قبل فراشات الليل التي تسعى لإحراقه والنيل منه ، وفي كل مقطع من مقاطع القصيدة يبدأ الشاعر بتحديد الساعة في إشارة منه إلى أن الموقف الذي مر به قد تم تسجيله في الذاكرة المتألمة بشكل تفصيلي وهو يستخدم الرموز في هذه القصيدة بكثافة :
الساعة الثانية
كنت تلملم أحزانك في عينيك
وتمضي
تبحث في قلب الوطن المجبول على الآلام
عن المجهول
إنه الشعور بالضياع يخيم على مخيلته طوال الوقت وبالرغم من ذلك هو يحاول ولا يتوقف عن البحث ، والشاعر في تصوراته وتجاربه هنا شديد القرب من عقليات ورؤى شعراء السبعينات حيث الشعور بالحزن والألم والضياع والبحث عن قيمة الذات يؤرقهم طوال الوقت.
ذلك المواطن المسكين كان منهمكا يفتش في ذاته وهو يسير مطرقا مستسلما للحزن حتى انقضت عليه إحدى قوافل كلاب الليل الجوابة للشوارع لتبدأ مأساة استجوابه :
أحسن ردك
أنت الآن بحضرة ملك الموت
فأحسن ردك
ما اسمك؟
إنها الذكريات دائما مؤلمة دائما محزنة ، دائما تدفع الشاعر إلى التغني بنغمات حزينة على الناي حتى نهاية الديوان :
هكذا كان يغني
ثم يمضي
شاهرا مواله المحزون
في وجه العسس
ونلاحظ أن الشاعر في استدعاءاته التراثية أيضا كان يزاوج بينها وبين ذكرياته الحزينة ويسقط عليها من تجربته ففي ” مقاساة ” يستدعي الشاعر بيت النابغة الشهير ( كليني لهم يا أميمة ناصب ….وليل أقاسيه بطيء الكواكب) لكن ” أميمة ” خاصة الشاعر لم تتركه إنها معه في كل مكان:
وأميمة تخرج
من نفث دخان سجائركم
من أبخرة النفس الصاعد
نحو المجهول في صمت الليل
إن المجهول والصمت والليل هم رفقاء الناي الأبديين في رحلة البحث عن الذات ، إنها رحلة لا تسير على وتيرة واحدة أو بشكل ثابت لأنها في الأصل رحلة داخلية في ذات الشاعر والصراعات الدائرة فيها ذات قطبين متجاذبين يمثلان الماضي بذكرياته الأليمة ولحظات الفراق المحزنة والحاضر بقسوته الدافعة دائما إلى الرغبة في الرحيل والسير إلى المنفى ، ولكن لا يمكننا أن ندعي أنها نظرة تشاؤمية بل هي توصيف للواقع المرير الذي يمر به الشاعر كفرد من أفراد المجتمع ، والذي يبدو هنا أنها – كما ذكرنا – رحلة في داخل أعماق الذات فهل يعني هذا أن الشاعر منسلخ عن المجتمع من حوله ؟ .. لا أعتقد هذا فكل ما مر به الشاعر في هذا الديوان مر به أناس كثيرون من أفراد مجتمعه وهو واحد منهم وكل ما هنالك أنه كشاعر لديه فرصة للتعبير عن كل هذه الفوضى وتلك المعاناة بطريقة مميزة يمثلها هنا ” الشعر ” …
إن حالة الحزن التي بدأت تجتاح دواوين الشعر الحديث ليست تقليعة من التقليعات بقدر ماهي تعبير عن المواقف الحياتية التي يمر بها الجميع من حولهم ، ولهذا نجد شاعرنا لا يتخلى عن الأمل بل هو يتمسك بكل بارقة تلوح في سماء الحياة من حوله ، وهذا يفسر حالة الهبوط والصعود التي تشبه مخطط رسم القلب الذي يقوم المرضى بتسجيله ، فالشاعر يعلو بالأمل ويتهلل فرحا لاقتناصه ويهو هنا يرتفع إلى القمة ثم نجده تارة يهبط بحدة إلى درجة تقارب اليأس في صورة منخفض… وإذا تتبعنا ذلك في الديوان سنجده بعد اختياره للمنفى – كما سبق – ومعاناته جراء ترك المحبوبة نجده وقد اعترته حالة تحثه إلى بداياته الشعرية … إنه الإلهام يلح عليه ويفرض عليه سطوته كالضوء الأخضر في محاولة لإنقاذه من الضياع فإذا به يصف الخواطر الشعرية عندما يعتريه وهجها :
يعتريني انعطاف أخضر صوب البدايات
البكارة
والمدى ينحاز للزهر المندى بالتمرد
رحبة كل المسافات
التي بين امتشاقك وانطلاقي
فافتحي لي كوة عند انفلاتي في مدارك
إنه يصر على التمرد وعلى المواجهة رغم كل الجراح ومواقف الخذلان ( هذا أنا / وهج على حد الجراح مسافر) … إنه يحاول اللحاق بالصور المشرقة ( وأنا ألهث ) ، إنه يعلن تمرده عبر صوت الناي الحزين وموسيقاه الشجية وهذا يستدعي ألفاظا ذات دلالات معبرة عن الحزن والألم تختلف في مستوياتها بحسب الموقف الذي يعيشه الشاعر في كل قصيدة ، فنحن نجدها فصيحة سلسة في كثير من القصائد ،وهو يحسن اختيارها بل ويجعلها جزءا أصيلا يشاطره أفكاره ويحاول تفسير الأشياء :
تقطنني لغة غامضة
فأفسر كل الأشياء
بمنظور سادي
أتخير ألفاظا / تجمع بين الجمرة والعشب
إن الألفاظ المعبرة عن الحزن والرغبة في الرحيل واجتراع الذكريات المؤلمة تطل بشكل كبير في الصور التي يرسمها الشاعر في معزوفته الشجية وأزهار السوسن الحزينة تنبت في أكثر من قصيدة ، والليل بظلامه وعتمته وما يكتنفه من غموض يؤجج الرغبة في تمزيق أستاره من أكثر الصور التي تظهر كخلفية للمشاهد في قصائد الشاعر ، أما الصورة الأكثر حضورا وهيمنة ووصفا لكُنْه الشاعر وذاته الشاعرة فهي صورة البحر وأمواجه المتلاطمة تارة ، المراوغة تارة أخرى والعاصفة الغاضبة تارات وتارات، وفي قصيدة ” إغراق ” تتضح الأسباب التي تدفع الشاعر لتبني صورة البحر في ديوانه حيث يحاول جاهدا أن ينتقي من أصدافه وطحالبه كسوسنة كما وصف ربة الشعر ،إنه يرسم الأمواج الإعصارية في جوفه وبحر الشعر يراوغه ولكنه يعاني من رغبة ملحة … يريد أن يعبر …أن يسجل بسرعة ..لن يتوقف :
البحر يراوغني
إن شئت فوائم بين الرقصة والإيقاع المجنون
وأنا ألهث
تلفظني كل بحار العالم … أتوارى
البحر يراوغني…
ورغم كل المحاولات يسدل الستار في المشهد على عتمة تامة لا يفصل فيها شيء بين ظلمة أمواج البحر والغيوم التي تملأ السماء من فوقها ، فالأمواج هي الأفكار والرؤى والغيوم هي الكلمات ( الغيث ) الذي كلما جاد على الشاعر بما فيه استطاع أن يرسم أفكاره بدقة لكنه هنا يقع في حالة من الإغراق يعجز فيها عن تفسير ما يشعر به ( رموز مغلقة – فأفسر كل الاشياء بمنظور سادي )…
وفي مقابل صورة البحر الغاضب نجد صورة الأم …الوطن الحاني للشاعر ؛ فصورتها من أكثر الصور حضورا في مخيلة الشاعر لأنها تمثل الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه ( ذكراها ) بعد أن لفظه وطنه الأكبر وأجبره على الدخول إلى المنفى …. وبعيدا عن القصائد المهداة فإن الديوان يمثل رحلة داخلية للشاعر في بحر ذاكرته وعلى حافة إطاره المرجعي … ذلك البحر يستقر في وسطه تمثال كبير من النور الأمومي يحمل هذا الاسم (لوزة).
التعليقات مغلقة.