جثة عزيز بقلم سامح الشبة
جثة عزيز بقلم سامح الشبة
جالت عيناى على الحاضرين … وعلى وجوه المقربين … أعرف بعضاً منهم والبعض الآخر أجهله ، ولا أستطيع تذكره أو معرفته … أرى الدمع … أرى كآبة المنظر معكوسةً على وجوههم وعيونهم … لم أسمع ثمة أصوات سوى صوت أنفاسى المتصاعدة صعوداً سريعاً لم يوقفه أحد … تصاعدت الأنفاس … أأبى أن أغمض عينى – رغم تعبٍ ألم بها ليلة أمس – أخشى أن أفتقدك يا دنيا … أن لا أراكِ أبدا .
وجلستِ على حافة الفراش تنتظرين أن يتحرك الجسد الساكن … فرفعت عيني أنظر إليكِ … وتبسمتِ لي يا دنيا … وحييت … أفقت … والتزم الجميع الصمت التام .
تعبيرات وجوههم توحي بأن خطراً سيحل بي … بل مصيبة ستحدث .
أخيراً جاء الطبيب المختص بسماعته … واضعاً إياها على صدرى … ممسكاً بنبضِ اليد فى يده … وارتسمت على وجهه ابتسامة الحزنِ القادم .
- الحمد لله … القلب سليم … الدقات منتظمة … النبض عادى وطبيعى .
ثار غضبي … وانتفض جسدي بعنف … ودنيا يدعوها آخر بغلق شباك الغرفة وشد الستائر .
وبكيتِ يا دنيا … وآهة مزلزلة تخرج من صدرك : - لا ترحل … خذني معك.
وهنا وفي الغرفة … كسا الحزن الوجوه … حاولت الصراخ … الكلام … الهمس: - لن أرحل … وسأبقى معكِ يا دنيا .
ولكن ليس بمقدوري إلا السكوت وعدم الحركة .
وهنا قبالة باب الغرفة المفتوح يجلس رجل أعرفه … متأملاً الوجوه … يستقبل منهم السلام ويرده عليهم … ويستقبل النظرات المشفقة على فقد عزيز . - أعزائى … إلى اللقاء … مع السلامة.
الباب مفتوح … والشيخ موجود … وأنا طريح الفراش وحدي.
تسللت حرارة إلى عروقي … جرى الدم وتدفق .
يتحسس حبيب وجهي المشتعل … تتحسس دنيا قدمي الباردتين .
وجلستِ يا دنيا جواري … بينما شيخ عجوز مترقب لحدوث حدثٍ ما ينتظره قد اتكأ على عكازه … رافعاً رأسه … ناظراً إليً . - ماذا ينتظر أن يحدث لي ؟!!!
كانت توقعات الباكين حولي تنبأ بأن حدثاً عظيماً جللاً سوف يحدث … إما في هذه اللحظة التي أتنفس فيها عبق الحياة الأولى … وإما في الدقائق أو الساعات المتبقية لاستقبال نورٍ فياضٍ يغمرني … ويذهبني إلى مكانٍ أجهله … أصاب عنده بحدة البصر .
وارتعشت عيني أمام عينيكِ يا دنيا لأول مرة … اهتزت صورتكِ أمامى … حاولت تثبيت رؤيتك وتثبيت حدقة العين … ولكن دون جدوى … فالعين غير ثابتة … تهتز دنيا ويهتز المكان ويختل الزمن … وتجف الدموع وترتجف القلوب … ووجدت نفسي تحن إليكِ يا دنيا. - أين أنتِ يا دنيا ؟!!!
- أهكذا بمنتهى البساطة أصبحت وحيداً!!!!
يناديني أحدهم من خلف ستارٍ:- - تعالى …
مددت إليه يدي … خذ بيدي … وشد ذراعي بعنفٍ لم أتحمله … فبرغم قوة الجذب إلا أنني قد اشتقت فى سبيل ذلك بالذهاب معه .. إلى أي مكانٍ يختاره هو .
وأثناء حالتي هذه … هبطت يدي من يده … وانفكت الأصابع وانحلت … وخلى المكان من الأصوات .. ومن الأنفاس … إلا صوت واحد يجتاحني بعنف : - أقبل ولا تخف .
فنهضت من مكاني … مستسلماً إليه … خاضعاً له …. وقد خرجت بدونكِ يا دنيا .
في هذه اللحظة حيث تخرج مقاليد الموقف من يدي … أنزل دون إدراك لمعنى النزول … وكأن معناه هو انفصالي الآتي عن هذا العالم … وعن دنيا … لكن ما أن غشيت عيني ظلام المخبأ … حتى ثار وجداني … فكأني استشعر ما يعنيه نزولي هذا … استشعر خطر اللحظة التي انفصل فيها عن دنيا .
أدرك أن الانفصال عن دنيا قد تم واقعاً … بدليل هذا الظلام … وجدتني انتفض … يدق قلبي فى عنفٍ واضطراب … وأخرج رأسي محاولاً التشبث بضوء نافذ يخترق ما حُدد لي … يخترق هذا الجزء المحدد لإقامتي … هذه القطعة من الغرفة المفصولة عن الحياة مع دنيا … أطل إلى سماء راحلة عني … أرفض الانفصال …محاولاً مقاومة هذا الموقف العصيب … وطالعني وجه كأول شئ أراه وكآخر شئ تراه عيني … دنيا …. رأيتكِ يا دنيا … تتحسسين صدري ودقات قلبي الآذنة بالرحيلِ … بالنقصانِ … بالتلاشي … بالعدم.
- مع السلامة يا دنيا .
مع السلامة يا أهل.
ونضحك … ونمد أيدينا … نحاول أن نجذب أنامل بعض … نرفض الانفصال … وينادي أحدهم على دنيا … يطالبها بسحب يدها…. - وانشغلتِ عني يا دنيا .
وبكينا في أسى على قلوبٍ قد عشقناها … ودروبٍ قد مشيناها… وسمعت أصواتاً تتواعد على اللقاء.
جن جنوني … أبحث عن منفذٍ استرق منه لحظة … أو مشهداً … أو منظر أخير …. فلم أجد.
تفاجئني دموع حبيب تتساقط … أسأله :
علام هذه الدموع ؟!!!
فتجيب دموعه:- - حسرةَ على فراقك يا عزيز … يا غالي.
قصة رائعة للكاتب الأروع :سامح الشبة