(جدتي والقرصان إسريكا)
بقلم عبدالله عبد الإله باسلامة
قبل سنوات طويلة وصل إلى جزيرتنا الهادئة القرصان إسريكا.. تقول جدتي التي تشرف اليوم على بلوغ عامها المائةوالخمسون عام، والتي تحرص على جمعنا نحن الاولاد والبنات كل ليلة كي تقص علينا حكاية جميلة لا نمل من تكرار سماعها يوميا، ليس خوفا من الخيزرانة التي تنهال على رأس من يتخلف أو يتأخر عن الحضور ، ولا طمعا في الحلاوة التي توزعها علينا بعد الانتهاء من سرد الحكاية، بل لأن القصة تتجدد بداخلنا كل ليلة، فحن نعيشها ونتنفسها بكل تفاصيلها ،ونشعر بأننا نرى القرصان إسريكا كما رأته جدتي لحظة
ترجله عن مركبه على شاطئ الجزيرة مرتديا بنطلونا أبيضا،وقبعة من الجلد تحجب الشمس القوية عن وجهه المحمر ، وهو يمر فوق الرمال الساخنة بخطوات واسعة و سريعة متجها إلى بيت الزعيم هربا من لظى حرارة الجو، فجزيرتنا رغم جمالها و غناها بالثروات الطبيعية تعاني من شحة الماء وشدة الحرارة ، بسبب تسلط أشعة الشمس عليها طوال أيام السنة .
لكن حال الجزيرة تغير بعد زيارة القرصان الذي قرر إنقاذ أهل الجزيرة ببناء مظلة خرسانية واسعة الأجنحة وسط ساحتها الكبيرة، مزودة بمراوح سريعة، كما بنى لزعيم الجزيرة منزلا خرسانيا محاط بسور أبيض مرتفع وزود غرفه بمروحة وثلاجة صغيرة .. !
تقول جدتي أن فرحة أهل الجزيرة يومها لا توصف، وأنها لا تزال تتذكر جيدا كيف رقص
سكان الجزيرة فرحا لأيام وليال تحت المظلة كأنهم دخلوا الجنة !
ولم يبال أحد بالشروط والقوانين التي سنها القرصان.. والتي بموجبها صار له الحق في محاصرة الجزيرة، ومنع السكان من التنقيب، أو بيع نفطها وثرواتها لغيره، وقايضهم بقاطرة من النفط مقابل قطرة من الماء ، ومن أجل أن تظل المظلة ملاذ سكان الجزيرة الوحيد فقد منعهم من استيراد الحديد والأسمنت حتى لا يبنون مظلات مشابهة، أو بناء سقوف خرسانية لمنازلهم تحجبهم عن سياط الشمس، كما منعهم كذلك من استخراج الماء بالطرق الحديثة، واحتكر كل وسائل استخراج الماء لنفسه، وصناعة المراوح ، والمكيفات والمظلات، وصناعة الثلاجات والمبردات بيده….
وبمرور الوقت كانت القوانين تزيد الحصار على سكان الجزيرة الذين كانوا مشغولين عنها بالسباق صباح كل يوم نحو مظلة الساحة كي يلوذون بأجنحتها العريضة، ويتمتعون بهواء المراوح طوال ساعات النهار يستمعون إلى صوت زعيم الجزيرة عبر مكبر الصوت وهو يتحدث عن ذكاء القرصان ،و تقدمه العلمي، وعن آخر اختراعاته، وإنجازاته العلمية ويختم حديثه كل يوم بخالص الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل،والناس تؤمن خلفه بإخلاص أن ينقذ شباب الجزيرة من العجز والتخلف الفطري الذي ابتلاهم به ، وأن يبدل حظهم البائس بحظ مثل حظ القرصان إسريكا ولو في الجنة !.
بمرور الوقت تزايد أعداد سكان الجزيرة تحولت مساحة الظل تحت المظلة إلى حلبة شجار ونزاع ، فقام القرصان بتقسيم الظل إلى أربعة أقسام : قسم شرقي يخص سكان شرق الجزيرة،وقسم غربي لسكان غرب الجزيرة، وقسم جنوبي لسكان جنوب الجزيرة، وقسم شمالي لسكان شمال الجزيرة !
لكن هذا التقسيم لم يحل المشكلة لأن سكان جنوب الجزيرة كانوا أكثر عددا من سكان شمال الجزيرة، وكذلك الحال بالنسبة لعدد سكان شرق وغرب الجزيرة ..فقام إسريكا بتقسيم كل اتجاه إلى ثلاثة أقسام : فالشرق أصبح (شرق ، وجنوب شرق، وشمال شرق)، وكذلك فعل باتجاه الغرب والشمال والجنوب فأصبحت مساحة الظل مقسمة إلى أثني عشر قسما توزع فيها سكان الجزيرة .
ورغم التقسيم الجديد إلا أن المشاكل زادت وتحولت إلى صراع وعنف واحتجاج …فقام القرصان بوضع أسلاك شائكة مكان الخطوط الحدودية … لكن الضمأ المتزايد، وحرارة الشمس نهارا دفعت السكان إلى الإعتداء وتقطيع الأسلاك ليلا … فأنشأ إسريكا برجا كبيرا للمراقبة، تديره فرقة قوية مسلحة بأحدث الأسلحة،ومزودة بأجهزة مراقبة متطورة لتراقب وتنظم الناس، وتحمي ما أسماه الأقليات، وأصحاب البشرة الغامقة من الاضطهاد، وتحمي أصحاب المذاهب، وأماكن العبادة، والدفاع عن حق النساء في التمتع بساعة الظل وقطرة الماء أسوة بالرجال، وغيرها من حقوق .
في البداية تصادم السكان مع الغرباء الجدد المستوطنين المسلحين في البرج، إذ شعر البعض بأن ذلك يشبه (الاحتلال) ، فأسرع الزعيم إلى تصحيح تلك المفاهيم المغلوطة !!، وقال أن الشرذمة التي تروج للفتنة بين السكان وبين المستوطنين تستهدف السلم المجتمعي وهو ما يحرص على تثبيته المستوطنين أنفسهم، وأنهم صاروا من أبناء الجزيرة ، وهكذا استطاع الزعيم مطايرة شكوك الشعب، ولم ينس أن يزف لهم خبر قرب موعد تأسيس الخطة الخمسية للبنية التحتية التي يدرسها منذ سنوات طويلة،والتي ستحول الجزيرة إلى دولة عظمى تنعم بالخير والأمن والازدهار…..
وبالفعل تأقلم السكان مع مستوطنة البرج التي أخذت في الاتساع بسبب توسع اعمال واهتمامات، وخدمات المستوطنين لأبناء الجزيرة فقد تحولوا من مراقبين إلى قضاة، وسجانين ،ومعلمين ،وخبراء في الزراعة والصناعة والسياسة ،والفنون، وحماه مدافعين عن حقوق المجتمع المدني والريفي الذي تم تقسيمه إلى مجتمعات، وجماعات، وتكتلات، وفئات….وأصبح مع كل فرد بطاقة، ورقم، ورمز للعبور ، ووقت محدد للظل، وقطرة محددة للشرب، …لكن
وتسكت جدتي – كعادتها – ريثما تتنهد ثم تواصل حديثها :
رغم كل هذا التنظيم الجميل فقد ظهرت عصابات خطيرة تمتلك أسلحة غريبة، ووقعت اعتداءات، ودعوات عنصرية تهدف إلى تهجير بعض الفئات، والأقليات فأعلن إسريكا منح الاستقلال لكل قسم، ولكل جماعة وفق خطوط التقسيم التي خطها بنفسه ،و أعطى لكل مجتمع ميثاق شرف ودستور ،وخرقة قماشية ملونة براقة ،فتحولت مساحة الظل إلى لوحة من الألوان المتعددة، والأشكال المختلفة، المتباينة والمتنافسة بعشوائية مما دفع مستوطني البرج إلى تعليم وتأهيل وتدريب كل شعب، وكل مجتمع وتنظيمه ،وتحويلة إلى دويلات متجاورة ذات حقوق وسيادة ، وبذلوا جهودا طيبة من أجل إنشاء فرق أمنية، وسياسية، واقتصادية، ودينية، وتعليمية….. يديرونها ويشرفون عليها مع تزويدهم بالأسلحة المناسبة للحفاظ والدفاع عن تلك المكتسبات العظيمة التي خلقت عداوات وحروب بين دول الجوار .
وتبتسم جدتي برضى قائلة :
ولولا عناية الله التي ألهمت القرصان إسريكا و المستوطنين إلى الإنتباه من خطر نشوب حرب شاملة وشيكة بين شعوب الجزيرة دفعتهم إلى إتخاذ قرار إنشاء مظلة عملاقة تغطي كل أنحاء الجزيرة مقابل الجزيرة نفسها !! عبر أقساط طويلة ومريحة وبهذا أنقذ القرصان العباد والبلاد من القتال و الفناء وصار الجميع يتمتعون بمساحات الظل المناسبة ، وبقي النزاع والشجار على الماء فبادر المستوطنين إلى تخصيص قاعة واسعة في أعلى البرج لتكون مقر اجتماع مندوبي وممثلي الدول، والفئات، والطوائف ،والاعراق المتعددة ، يتم فيها مناقشة خلافات الفرقاء،وفق قاعدة الاحترام المتبادل، وحتمية التداول السلمي للسلطة بشفافية وديمقراطية ، وضمان التوزيع العادل لقطرات الماء الشحيحة، ومواجهة خطر زيادة عدد السكان الذي يهدد مستقبل الجزيرة المرهون بالاقساط ،وكل ذلك تحت إشراف ومتابعة مباشرة من قبل القرصان إسريكا ومستوطني البرج الذين دائما ما يشعرون بالقلق ،والانزعاج من تردي الوضع الأمني، والتعليمي، والصحي، والاقتصادي، والاجتماعي… ويؤكدون بأنهم يعملون ليلا ونهارا من أجل إيجاد بيئة صحية ، ومجتمعات مستقرة تتمتع باستدامة حقيقية لمستقبل الأجيال القادمة.
و(كالعادة) عندما تصل جدتي إلى كلمة (المستقبل والأجيال القادمة)ترفع يديها و تشخص بنظرها الضعيف إلى الأعلى ، و تلهج بدعاء طويل بأن يفتح الله على الأجيال القادمة من فضله، ويرزقهم من واسع خزائنه من أجل تسديد الأقساط واستعادة الجزيرة…… إلخ
في هذه الأثناء يجب علينا نحن الأولاد أن نرفع أيدينا وانظارنا إلى السقف، ونؤمن على دعائها بصوت واحد.. آمين..آمين ….. ومن لم يفعل ذلك تحرمه جدتي من الحلاوة ، حتى جاء يوم قاطعتها محتارا :
- لماذا تسألين الله ياجدتي أن يرزقنا ثروات من خزائنه وثرواتنا وارزاقنا في خزائن القرصان إسريكا الذي سرق جزيرتنا ؟!! ثم إن معلمي يقول أن إسم القرصان هو إسرائيل وامريكا وليس إسريكا يا جدتي ! .
نظرت إلي جدتي بغضب وهي تطوح بعقد مسبحتها في وجهي :
- ( أي ثروات وأي حصار ؟! نحن فقراء ،اغبياء منذ أن خلقنا الله، ولولا القرصان لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من نظام، وتقدم، وأمان ….المشكلة ليست في القرصان بل فينا نحن المتخلفين هكذا يقول الزعيم حفظه الله..ثم ما أدرى معلمك الغبي بالسياسة ….. )
ودست يدها تحت فراشها لتستل عصا الخيزرانة لتضربني على رأسي( أخرج من عندي يا غبي.. أنت محروم من سماع الحكاية ومن الحلاوة حتى تتعلم الأدب)..! من يومها وأنا أعيش حكايات جدتي عن القرصان إسريكا متلصصا عبر ثقب الباب !! .
للكاتب / عبدالله عبدالإله باسلامه
اليمن /1/ يوليو / 2021 م .
التعليقات مغلقة.