جرار الحبد…
ابراهيم مصري النهر
جرار الحب
في نفس العام الذي حصل فيه خالي الأكبر على بكالوريوس الصحافة والإعلام من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وفي التوقيت الذي ظهرت فيه نتيجة السنة النهائية وشهادة التخرج، اشترى أخوالي جرارا زراعيا جديدا يوغسلافي أحمر اللون، وعمت الزغاريد بيتهم الذي امتلأ ما بين مهنيء على النجاح ومبارك على شراء الجرار أو هما معا، وذُبِحت الذبائح وأُعِدت الموائد وفُرِّقت الحلوى ودارت أكواب الشربات، كعادة طيِّبة عند أهالي الريف زمان؛ مَن يبني بيتا أو يشتري شيئا ذا قيمة فعليه أن يذبح شاة ويطعم أصحابه وجيرانه وأقاربه.
وكان أهل العزبة مُحِقِّين عندما احتفلوا بهذا الجرار، الذي صار الحارث لأرضهم، والدارس لأرزهم، وسيارتهم عند الذهاب لأداء واجب عزاء أو فرح، فقد كنت أراهم بالعشرة أفراد يعتلونه، اثنان أو ثلاثة بجانب خالي واثنان على الرفرفين وثلاثة أو أربعة على ”الباكم“ والقاطرة.
وكان أيضا مسعفهم في نقل مريضهم إلى المدينة حيث عيادة الطبيب أو المستشفى المركزي.
وأتذكر يوما أن أحد أهل العزبة لدغه ثعبان في قدمه، بسرعة ربطوا ساقه من أعلى الركبة وحملوه على إسعافهم وتم بفضل الله ثم بفضل هذا الجرار إسعافه.
وذات ليلة وفي وقت متأخر تأزَّم مريض ربوٍ شعبي من أهل القرية، وكان هذا الجرار سببا في انقاذ حياته أيضا.
وهكذا ما من أهل بيت من بيوت العزبة إلا ولهذا الجرار جميل في أعناقهم، فكان دائما ما يجمعهم ويُؤلِّف بين قلوبهم سواء في واجب فرح أو عزاء، في عيادة مريض أو انقاذ مصاب، في حفلة عمل في الجرن عند دراس الأرز أو في الغيط خلف المحراث.
ولكنه كان يجمعهم أيضا تجمعا من نوع آخر، تجمع يبذلون فيه الجهد ويتصبب فيه عرقهم كتمرين صباحي يردُّون فيه بعض الجميل الذي في أعناقهم له.
بعد فترة من الزمن فسدت بطاريته، وأصبح في حاجة إلى من يأخذ بيده ليساعده على النهوض من مضجعه وخصوصا في الصباح الباكر لأيام الشتاء، فكان لزاما على أهل كل بيت أن يرسلوا أحدهم للمشاركة في تمرين الزق الصباحي اليومي، وكان أيضا كل من يمر كعابر سبيل يشاركهم هذا النصب والتعب على الرغم من أنه لا ناقة له فيها ولا جمل، ولكنها المروءة ونجدة الملهوف، والتي أرى هيكلها الآن قد تآكل ويحتاج إلى الترميم الفوري قبل أن ينهدم البناء بأكمله.
وظل هكذا يُجمِّعنا في المناسبات وأيام الغرس ومواسم الحصاد، وفي الصباح الباكر لأيام الشتاء، رابضا في أعلى منحدره بضعا وعشرين عاما حتى بِيع….
وصار أهل العزبة من بعده لا يجمعهم جامع ولا يربطهم رابط، إلا من رحم ربي.
د. ابراهيم مصري النهر
التعليقات مغلقة.