جماليات التلقى فى قصة صعود للكاتبة نرمين بقلم منال الرويني
——————-
للنص وجهان لا ينفصمان ،الشكل و المضمون ،اللغة و الأفكار التى تعبر عنها و من خلالها .إنهما صنوان متكاملان يتضافران لإنتاج المعنى و هذا ما سوف نراه فى قصة الكاتبة نرمين دميس التى تحمل عنوان (صعود).
تأتى البداية من العنوان و هو اسم نكرة لم يُضَف إلى شئ فيقيد إطاره و إنما جاء مفتوحاً على دلالات شتى لا تتضح إلا بعد قراءة القصة ،إنه يحمل فى طياته بعض الإفتراضات ..أى صعود ؟و من سيصعد؟ و لماذا ؟ و كيف ؟ و إيلامَ؟.
فى السطور الأولى تلتقط عدسة الراوى صورة حركية لطائر يقترب من الأرض تاركاً عالمه العلوى فى الفضاء الرحيب تطلعاً لعالم آخر ينبسط من تحته بامتداد هذه الأرض. ثم ينقلنا السارد إلى حالة القلق الذى يساوره خوفاً على مصير الطائر عبر لغة استفهامية تشرك القارئ فى تلك الحالة المرتبكة:
- لمَ الهبوط و قد أُتِيت سؤلك؟
- هل أدمنت ممارسة الخوف؟
- هل انبهرت بالمبانى السامقة و هذا الصخب الزائف؟.
عبر تلك الأسئلة يتبين لنا أننا بصدد القلق الإنساني و ليس قلق الطائر نفسه فالإنسان اعتاد أن يُسقط ما بداخله من مخاوف و أمانى على الأشياء و الكون من حوله و كأنه هو الملك و كل الأشياء تدور فى فلكه.
إذن المشكلة ليست فى الطائر الذى يخشى الراوى مصيره حال هبوطه على الارض بقدر ما هى مشكلة الإنسان الذى يتوق إلى الأعالى هربا من حجيم الأرض بصراعاتها و نزاعاتها المحمومة.
و يستمر تساؤل الراوى :أتراه الفضول الذى دفع طفلاً إلى استكشاف النار بإصبعه؟
هنا تحيلنا الكاتبة إلى السردية الدينية فى تفسيرها للخطيئة الأولى التى كانت سبباً فى هبوط آدم و حواء إلى الأرض عندما دفعهما الفضول إلى الأكل من الشجرة المحرمة . فهى لا تتمنى للطائر المسكين أن يقع فى نفس الخطأ فيندم على فعلته و فى نفس الوقت تغبطه و تتمنى أن تصبح مكانه :
“نعم يا عزيزى نشتاق إلى لحظة الفكاك من الأسر ،حين نكسر قيوداً كبلتنا فسلبتنا الرفعة و التسامى”.
و قد لا يكون الفكاك من القيد مقصوراً على معناه الفيزيقى بل بمدلوله المعنوي أى تسامى الروح التى وقعت فى أسر المادة و الجسد فأصبحت حبيسة تتوق إلى التحرر والخلاص .
هكذا تتعدد الثنائيات داخل النص مثل الأرض مقابل السماء ،الصعود مقابل الهبوط ،المطلق مقابل النسبى ،الحرية مقابل القيود و الروحى مقابل المادى .و ربما تتسع الأفاق لدلالات أخرى بحسب تودوروف من خلال القراءة الشاعرية للنص التى تتسع باتساع أفق القارئ و تعدد مشاربه الثقافية و العلمية و الأدبية .
و باقتراب نهاية القصة ترتفع حدة التوتر فى الحدث و يحدث ما كان يخشاه الراوى إذ يقترب الطائر المسكين من الأرض فيصوب أحد الصبية بندقيته نحوه ليصطاده فتنحبس الأنفاس خوفاً من هذا المصير البائس ،غير أنه ينجو عندما يخطئ الصبى الهدف و تستمر الكاميرا فى تتبع الطائر الغبى المصمم ألاَّ يتعلم الدرس فيذهب إلى مصيره المجهول حيث يدخل أحد البنايات من خلال النافذة التى تُغلق عليه فلا يجد مخرجاً ،لكننا نحن الذين نحتاج إلى مخرج حقيقى لم تحرمنا الكاتبة إياه عندما أنهت القصة بالأمل من خلال لوحة فنية التقطتها عدسة مصور من منظور فوقى حيث قالت :
(ابتسمت ابتسامة هادئة عندما لمحت سرب السلام يرفرف عالياً
وكلما ارتفع بعيدا وتضاءل حجمه؛ تضاءلت معه الأرض من تحته).
هكذا عبرت الكاتبة عبر لغة قلقة مشحونة بالإنفعال فى مونولوج يتخلله تصوير سينمائى يستحضر اللحظة ليتوحد معها المتلقى. و فى النهاية يحضرني أن أقول إنه إذا كان الصعود و الهبوط ثنائية عبرت عن مضمون و فكرة القصة ،فإنها أيضاً كانت بمثابة الإيقاع الذى اعتمده تكنيك القصة فهى أشبه بجهاز رسم القلب فى منحنياته التى تعلو و تهبط و أشبه بإيقاع الموسيقى المتصاعد حيناً و الهادئ حيناً حتى النهاية فيأخذ بالألباب حتى نهاية القصة.
التعليقات مغلقة.