حادثة “السبخة” بقلم د. محمد محي الدين أبو بيه
يا وابور يا مولع….حط الفحم
وأنا اقولك ولع…..حط الفحم
مازالت أصداء تلك الأغنية تطن بأذني فتأخذني إلى أجواء قريتي التي تركتها منذ أن تم تعييني بالإذاعة في القاهرة
وقتها الأراضي الخضراء كانت بمد البصر والهواء له رائحة الزهور المنثورة على جانبيّ الطريق فتمتلئ الرئتان بأكسجين نقي محملاً بأسباب الحياة
يشد باقي الاطفال في نفس عمري ذيل جلبابي وأنا في مقدمتهم أقود هذا القطار المتهالكة عرباته فالكل جسده عريان لا تستره إلا قطعة من أسمال بالية والجميع حافي الأقدام
: نظل نردد هذه الكلمات زاحفين كل شوارع منطقتنا حتى نصل إلى الترعة التي كنا نسميها ( السبخة)وفي لمح البصر تنفلت عربات قطارنا منسلخين مما علينا من أسمال ملقين أنفسنا في دوامات الترعة والضحكات تملأ أشداقنا
نتقاذف دفعات المياه ونكور قطع طينية من القاع الرخو ثم نضرب بعضنا البعض في استمتاع لا مثيل له
: ذات مرة كان يوم المولد النبوي وقد أحضر لي أبي بهذه المناسبة جلبابأً أبيضاً يسمونه ( الزبدة) من شدة بياضه ولمعانه وكذلك صندلاً له (بزيم) وكانت هذه المرة الأولى التي تكتمل هيئتي بهذا الشكل الجذاب فقد تجمع كل الأولاد من منطقتنا ومن المناطق الأخري والجميع يلامس الجلباب ويتفحص الصندل أبو بزيم وقد اتسعت عيونهم وتدلت ألسنتهم
ركبنا ( الحمير) كعادتنا في هذا اليوم حاملين سيوفاً خشبيةً ونتسابق مخترقين كل شوارع القرية حتى تأتي كل طريقة من طرق الصوفية ببوارقها وطبلها فنطوف معهم حتى ينتهي النهار
لكن هذه المرة همس لي ( رشدي) عند آذان العصر بأن نكف عن الرمح بالحمير ونذهب إلي( السبخة) فقد تعبت الحمير ولابد أن تستريح وتأكل من الحشائش الموجودة على جوانب الطريق ونأخذ نحن غُطس
وجدتها فكرة معقولة وافقته فذهبنا أنا وهو وتبعنا باقي الأولاد
كنت حريصاً على الجلباب والصندل الجديديّن فوضعتهما وسط الزراعات ووضعت فوقهما حجرا صغيرا ..ثم ألقيت نفسي وسط الأولاد بالمياه
الشمس بدأت رحلة الوداع وقد خفت ضوءها شيئا فشيئا ولسعات برد المغربية قد قرصت جسدي فخرجت من المياه وذهبت لأتناول ملابسي من المكان الذي وضعتهم فيه فكانت الصاعقة لم أجد إلا الملابس الداخلية وفقط الحجر ولا أثر للجلباب والصندل
أخذت أبحث هنا وهناك وبعثرت كل ذرات التراب ونزعت أوراق الزراعات بلا فائدة
تلفت حولي وجدتني وحيدا فقد ذهب الجميع حتى حماري ذهب وتركني
ماذا أفعل الآن..أخذت أسأل نفسي وكيف سأواجه أبي وأمي وانا بهذا المنظر بملابسي الداخلية فقط كما أني أضعت جلبابي الجديد وصندلي وهما بالشئ الفلاني فقد دفع فيهما مبلغا محترما
لا لن أرجع للبيت دونهما وسأبقى حتى يظهرا..لعل أحد أحب أن يداعبني ثم يرجعهما…هكذا راودني الأمل
على الجانب الآخر انقلب البيت عندنا فالكل يبحث عني وأين اختفيت فالكل يعلم أني ذهبت للإحتفال بالمولد مع طرق الصوفية وقد انتهى فأين ذهبت
ساح الكل بالشوارع في كل مناحي القرية باحثين عني وكانت ليلة ظلماء فحملوا الكلوبات وهنا تفتق ذهن أحد أعمامي بأن يبحثوا عند السبخة
وأنا منكمش على نفسي وأرتعش من شدة الخوف فلا إضاءة وصوت نقيق الضفادع وطنين الناموس ونباح الكلاب المتواصل أجواء تدعو للرعب
وإذ بيد تتلقفني وصوت يقول (إنت نايم هنا وإحنا بندور عليك)
أخذتني أمي في أحضانها والدموع تبلل خديها أما أبي فقد اكتفى بألا يعاقبني على ضياع الجلباب والصندل…لكنه اختزنها لأول فرصة أخطأ فيها وأعطاني عقاباً مُضاعفا مازالت آثاره في ذراعي فقد أصابني بكسر فيه
…الغريب حتى الآن أني لم أعرف من أخذهما ولكن بعد تلك الحادثة لاحظت أن ( رشدي) الذي ذكرته من قبل يصرف ببذخ وهو الذي تمر الأشهر ولا يوجد معه قرش واحد…
[
عندما أزور البلد أتذكر تلك المشاهد وأريد أن أذهب إلى أماكن حدوثها لكن للأسف أتوه ولا أجدها وأظل أفتش عنها
فقد أضحت( بوار)…الزراعات كلها تحولت كتل خراسانية تزينها أطباق( الدش)
و(السبخة) لم يعد منها إلا اسمها أما هي فقد جفت وملأتها أطنان (الزبالة)وتبطينها لم يُجد نفعا
التعليقات مغلقة.