حادثُ دَهْس…
أحمد عثمان
حادثُ دَهْس
واهناً، بعد طولِ مسيرٍ، مُثقلاً بحِملهِ يصل ..
يعبر مدخل سوق المدينة.. بعينين أعشاهما طولُ العمرِ، وسوادُ الحروفِ، يجول فيما حوله، وفيمن حوله، وهو يحاول جاهداً التوغل إلى عُمق السوق .. تتجاذبه مشاعر وأحاسيس غُربة لكل ما تلتقطه عيناه من بشرٍ وحجر، وماتسمعه أذناه من مفردات تتناثر من حوله؛ لم يعتدها، ولم يستسغها .. انتابه شعورٌ غريبٌ كمن هبط للتو إلى عالم آخر غير الذي عاشه، وتعايش معه في حميمة ووئام ..
حاول التوغل أكثر، لكن قدراته لم تسعفه؛ فقنع ببقعة صغيرة على مقربة من الباب تفي بالغرض، ثبَّت عليها منضدة نحاسية صغيرة، ثم أخرج من جيب معطفه الكالح – الذي أغبره طول الطريق – قلماً مُذهَّباً، تبدو عليه النُدْرة .. يضعه- بعناية – فوق سطح المنضدة المصقول، وبجواره أرفق بطاقة صغيرة كُتب عليها: “للبيع ..”
فوق حجرٍ عتيقٍ – قرب بضاعته – يجلس؛ مُلجئاً ظهره المحدودب إلى السور المتداعي؛ يترقب ..
يطول به المُقام، وهو يتابع الداخلين والمغادرين .. يتأمل الغادين والرائحين، وما من أحدٍ ينعطف نحو بضاعته .. برودة قاسية تنهش جسده النحيل، يتقوقع داخل أسماله ملتمساً للدفء .. يدُسُ يده في جيب داخل المعطف، تخرج قابضة على سيجارةٍ متراخيةٍ، طالت بها السُكنى في كِنِّها، يعالج استقامتها، ثم يشعلها.. تختلج بين أصابعه وهو يمتصُّها امتصاصاً ..
كان النهار قد ابتعد عن منتصف مولياً؛ حين تمهل أحد المتأنَّقين تتبدى عليه مظاهر الثراء، مقترباً من المنضدة؛ متأملاً القلم .. على استحياءٍ التقطه، وراح يديره بين أصابعه متفحِّصاً .. يشرئب الرجل يتابع الموقف، لعل وعسى .. لكن الزبون سرعان مامط شفتيه وهو يعيده، ثم يستدير متجهاً حيث عمق السوق .. يتهاوى الرجل إلى جلسته، يزدرد لُعاباً مُرًّا، وقد اكتسى وجهه بأمارات الأسى ..
ينتعش الرجل – مجددا – حين يرى شاباً عشرينياً يتوقف متفحصاً القلم .. يراوح النظر بينه وبين الرجل الذي ترجل مقتربا منه .. يتساءل، وقد طفح الشك على محياه:
- هل هذا القلم يكتب ياعم؟
بإقبال وحماس يجيبه الرجل، وكأنما يستحثه على الشراء: - بالتأكيد .. إنه قلم نادر، ذو قيمة
يمتعض الشاب قائلا: - لكنه عتيق، ولم يعد متداولا، ولا أظن أن له مكانا بهذا السوق .. أرى أن المتحف أليق به ..
يعود الرجل أدراجه؛ وقد اعتراه القنوط، يحدث نفسه: - أتراني أخطأت المقصد ؟! .. هل حقاً ما قال الشاب؟ .. ما بال القوم .. إنه قلم نادر، توارثته عن أبي، وأبي عن جدي .. لا شك أنهم غير مُقدِّرين لقيمته؛ وإلا لتهافتوا على اقتناءه .. عزيزٌ وصعيبٌ عليَّ أن أُمفرِّط في رفقته، ولكن ماذا يفعل ذو الحاجة، وقد وهن العظم مني؟!
يواسيه ذاك المتربع في أعماقه: اصبر.. قد يأت من يُقدِّر
يعود سيرته الأُولى؛ وكأنما أراحته هذه المواساة .. يجلس هادئاً، مستسلماً؛ وقد دس وجهه بين دفتي معطفه؛ يتقي البرودة المتمددة حوله، على مضض يعاقر الانتظار .. ثِقلٌ يجثم على جفنيه، يصارعه .. يفشل، ويغفو …
في سَبحة إغفاءته؛ تراءى له رواد السوق يسيرون على رءوسهم؛ فيما تحملق فيه أقدامهم، ترمقه بنظرات ساخرة مستهزأة، تؤازرها قهقهات سكارى صاخبة .. تتعالى تارة، وحين تخفت يعلو نحيبٌ لايعرف مصدره ..
النهار يواصل المسير في درب الرحيل .. الصخب يتلاشى، ومعه تسكن الحركة، ويسود السكون .. - أصح يا هذا .. انفضَّ السوق
غمزه أحدهم وهو يغادر، يفتح عينيه .. من فوره يرسلهما نحو منضدته، جحظتا حين لم يجدها حيث وضعها ..! تجول عيناه تمسح المكان بحثاً عنها .. يُوسَّع دائرة بحثه .. افترسه اليأس بعدما أيقن ضياع ضالته .. يستسلم لمقاديره، ينهض واهناً، يجرُّ قدميه مغادراً ..
عند باب السوق؛ تلْجُمُه المفاجأة .. تطفر مقلتاه بدموعٍ صامتةٍ تنسال لهيباً يلسع وجنتيه؛ حين وقعت عيناه على القلم والبطاقة؛ وقد هرستهما الأقدام ..
التعليقات مغلقة.