حرب مقدسة بقلم. عصام الدين محمد احمد
أهم بصعود ( الأسانسير )، صوت يزاحمني :
صدر قرار بنقل بدوي.
ألتفت لأتأكد من شخص المُتحدث، وأثناء الدوران يُغلق الباب، أنزل بالدور الثالث عشر، الإدارة تكاد تكون فارغة، السعاة يترقبون قدوم بدوي أمام الأسانسير ،وفي الغرفة المقابلة الموظفات تتهامسن، جلست قبالتهن:
أ أفتتح ندوة الترويح أم ما زال الوقت مُبكراً ؟ !
تناجيهن يغظيني، ما اعتدت يوماً – أن أُهُمش هكذا !
بالطبع لأنك نقعت عقلك في سائل البلاهة وأضحى التبجُح معهن والتحرش بهن هما المكونان الرئيسيان لعلاقاتك !!
تدخُل موظفة ولسانها يلهج :
صدر قرار النقل.
استويت على مكتبي، فتحت ملف الموضوعات التي يجب الانتهاء منها، تناوشني الخيالات في خضم الأوراق :
” عبد المُهيمن شيخ الخفراء يبذُر الأرض بخطوه، لتنبت الأشواك، البيوت – منذُ سنوات – لا تنفتح أثناء مروره، يداه معروقتان لا تسلم منها أية رقبة، يُقاسم المطاريد فرائسهُم، اشترط أن يقتصر نشاطهم على البهائم الشاردة . “
لماذا تجنح لتذكُر هذا الرجل الجهم ؟ ؟
ففي شعاب الذاكرة أناس طيبون، لا تقُل أن الطيب يذهب ولا يترُك أثراً في النفس !
أتصدق أدعاء النقاد بأن الطيب شخصية لا تصلح لدراما الحكي!
“ها هو عبد المُهيمن يدخُل في جلبابه الغويط، يولم القبائل، لا يطوي الأبسطة، الأوز والبط والفراخ تجذبهم حارة ملتوية تنتهي بدواره ، لاأحد يجروء علي الشكوى أو يتذمر في سريرته.”
ها أنت الآن سبحت في فضاء مشوش، وتناسيت – عمداً – زوبعة النقل .
ولماذا أقحمتنا دوار عبد المهيمن ؟ !
لم أطلُب لك شاياً، أعرف أنك تشربه دون سكر ويا سيدي سأعطيك سيجارة جيدة الصنف، ما رأيك أيها الناقد ؟ ؟
أظن أنني أتماهى مع أبجديات القص!
ربما كان النقل حقيقياً، وربما كان مزحة، وفي المكتب الفني الخبر الأكيد .
هكذا قد حنى عقلي، وأربكني الشتات، فنزلت مُسرعاً إلى الدور الحادي عشر، درجات السلم من الرُخام اللامع، تنزلق الأقدام الثقيلة المهرولة، فكادت رأسي أن تدُق.
لي صديق في السكرتارية ، أظُن أنه يدين لي بجميلً لابُد من رده، فميقات نزع فتيل القـُنبلة مُسجل على الحاسوب، غرفته غير موصدة الباب، أجده مشدوهاً أمام الحاسوب، أحثه للبحث عن القرار الذي تلوكه الألسن، فتش في ملفاته، فلم يجد، وللتيقـُن قلّب السجلات، غادرته.
ألج حجرتي ، العاملون يتوافدون، الحيرة تلبس الجميع، غمز ولمز، ،أقدم الموظفات تـُبادرني :
ماذا وجدت ؟ ؟
لا شيء سوى الكتمان .
لا دُخان بدون نار .
زيد هو مُعيط هونطّاط الحيط.
أتمطى في مقعدي، أنظر عبر النافذة الزُجاجية إلى الشارع، الطريق طويل، والمُركبات تكسو بطنه بالصاج، أهينم :
لماذا تشغل دماغك بهوسة الشائعات فيمكنك الاسترخاء والتأمُل بعيداً عن طارقة اللجلجة .
تتسرسب نمنمات الحكمة :
اعتادك الهزار، فيصعُب أن يتبدل كيانك.
يا سيدي من باب المشاركة الوجدانية ،حتي لا تكن كاللمبة منزوعة الفتيل.
في الشارع كهل ينظم المرور، السيارات تعبره، لا يلتفت إليها، أظُن أنه مُنشغل في رفع يده وخفضها.
أتناجى :
ستكون خسارتهم فادحة، فبدوي لا يجيد إلا كلمة نعم .
دائما في مركز الدائرة وثابت في مضبطة العلاقات رضاهم التام.
أستخرج كتاب الهوامش المُلتحد في الذهن :
” تهرب فتونه خادمة عبد المُهيمن مع نعواس صبي الهوامش.
في رحلة البحث عنها فتشوا صرتها، فاضية إلا من دستة عنادي ملونة، ومنديل رأس مطرزة حوافه بالترتر، ومترين من قماش ستان برتقالي، ومكحلة من الفضة ورسومها المنمنمة، وحجاب أصفر فيه تهويمات عفوية بخط رديء، وطاسة خضة بزخارف عنكبوتية، ومنديل من القُماش ملوث بالدم .
وتذيع أمرأة عبد المُهيمن في جلستها المحفوفة بالنساء المُلتحفة السواد:
فتونة سرقت الدلو، والماء الراكد في القاع لم يُنزَح، وافترش الجدب الأرض والنفوس، وأسرت إليهن أن عبد المُهيمن لبسته الجنية !
يضاجعها طوال الليل والنهار، تنسّل عوده، صار هشاً تذروه الرياح.
تبدل همس القرية نبراً، أيام قليلة ويجمع رؤوس العائلة، وبعد العشاء الدّسم أشاروا عليه بمحو الهوامش “
أفرغت من تدخين سيجارتك؟
أارتشفت ما في الكوب عن آخره؟
أترغب السمر؟
هون عليك فإنني أشعر بالضجة خارج الغُرفة، ومن الضروري خروجي الآن لاستكشاف أبعاد الصورة.
ها هو المُدير تعلو وجهه ابتسامة شاحبة، الموظفون يلتفون حوله، كُل منهُم يهنئه، ها هو كاهلي قد نفض التأزُم والتطوح بين ضفاف الارتباك، ولكن في شحوبه صراع وشعور بالمهانة.
أظنك تلمح أضطرا به الآن، في خلجانه أمواج عاتية، ما أنحرف يوماً عن النطاق ، والمُكافأة تمركزه بين أطـُر الصورة.
فلماذا تكبيل يديه الآن وطرحه بين فكي المٌـقصلة ؟ !
التغيير – يا فالح- سنة الحياة،ربما تبتهج لك الدنيا وتتولي الإدارة!
تأمر، تنهي، تلتف حولك الجميلات، تعهد قدماك البنوك، ألم يأن له الرحيل؟
مازالت وريقات كتاب الهوامش بيدي، أستنهض التفكر :
“يفتش عبد المُهيمن جميع الدور، لم يجد شيئاً سوى سراويل مُرتقة، وأسفل الحوائط نفوس مُتعبة، وفوق النوامات أطفال أجسادهم مسلولة، وخلف الأبواب شماريخ يملؤها السوس، حزمة برسيم هنا، وحمارهناك، وجرذان تختبر المسالك بانسلال لولبي.
أصدر القرار بالهجوم الشرس على الهوامش، فالجنية التي امتطته سكنت شقاً في الهوامش، أسبغ عبد المُهيمن علي مهمته القداسة، ساق الناس إلى أتون المحرقة وأعدا إياهم بكلمات مبتورة المعاني وحفنات قمح .
الفلاحون دفعوا ثمناً باهظاً في معركته مع الهوامش .
تكسرت الفؤوس، تحطمت النوابيت، غرقت الزروع، أُغلق السوق لمُدة عام، شجت الرؤوس، تُركِت الندوب غائرة في الأوجه. “
أعطني سيجارة وأطلب لي فنجاناً من القهوة، ودعنا من اللغط، فعزبة الهوامش بها ما لا يزيد عن مائة عشة، قوامها البوص والطين، وربما سعيتم للحرب تخلُصاً من الملل، وربما كان للتشيُع دوره، وحينما انتهت الحرب بعشر جثامين ، ثرتم ورجل منكم طرح عبد المُهيمن أرضاً، ومرغ وجهه في التُراب، وغمد في كبده نصلاً قاتلا.
ما شفع له أنه ابن جلدتكم، وبهذه النهاية سطرتم بداية العهد الجديد.
ولكن ألا ترى أن هذه النهاية تختلف عما ورد بكتاب الهوامش ؟
لا ذنب لي في هذا التسلسُل فأنت دعوتني للمُشاركة .
عرجت إلي غرفة بدوي، يتربع فوق مقعده، فوق مكتبه أكداس من الورق، يضع كفي ذراعيه المرتكزتين علي سطح المكتب فوق رأسه ، أتمتم:
سبحانه مُغير الأحوال .
الهاتف يرن ، بدوي يرد :
زوبعة في فنجان.
……
لن تسلم الجرة كل مرة .
……
بدأ يهمس في رده، فعلمت أن وجودي غير مرغوب فيه، قُمت خارجاً وصورة عبد المُهيمن تلاحقني.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.