حصل خير…
بقلم د.نهاد حلاوة
لم أتردد فى قبول دعوته للافطار فى شقته فقد كانت أول أيام أيام الشهر الفضيل وكنت أفتقد بشدة التجمع العائلى المعتاد فى مثل هذا اليوم وقد اقتضت ظروف عملى أن أكون بعيدا عن الاسكندرية مع استهلال الشهر الكريم للمرة الأولى فى حياتى فانتابنى شعور بأن هذه الدعوة هى طوق النجاة من مرارة الافطار وحيدا.
كنت قد تعرفت على جمال فريد صاحب دعوة الافطار منذ عدة أسابيع عن طريق أحد زملاء العمل وكان جمال قريبا له وسرعان ماتقاربنا وتكررت لقاءاتنا فقد جمعتنا هوايات واهتمامات مشتركة كشغف القراءة والموسيقى والتردد على المسارح وقاعات السينما كما أن جمال كان يعيش وحيدا مغتربا بالقاهرة يطارد حلمه بأن يصبح شاعرا معروفا منذ عدة سنوات.
وصلت الى العنوان ٨ شارع الملك الصالح – الدور الثالث –شقة ٣٢ بسهولة وكنا قبل موعد الافطار بنحو نصف الساعة.
استقبلنى بترحاب وود شديدين وشت بهما ابتسامته العريضة واعترانى احساس بصدق مشاعره الطيبة نحوى وفرحته الغامرة بقبول دعوة الافطار شكرنى على لفافة الحلوى التى أحضرتها كهدية حسب تقاليد الزيارات وأردف أنه لا داعى مستقبلا للتكلف والمجاملات فقد أصبحنا صديقين.
دلفنا من البهو الرئيسى للشقة الى أول الغرف وأشار بكلتا يديه وبحركة دائرية غطت كل انحاء الغرفة قائلا أعتقد أنك ستستمتع بالغرفة حتى مدفع الافطار وأضاف سوف أتركك لأحضر مائدة الطعام عرضت عليه المساعدة فرفض قائلا ان المهمة يسيرة جدا لأن الجزء الرئيسى من الطعام سوف يأتى جاهزا ساخنا متزامنا مع أذان المغرب وانصرف مضيفا سوف تعجبك الغرفة.
كانت الغرفة متسعة ذات سقف مرتفع جل مساحة جدرانها مبطنة برفوف خشبية تحمل المئات من الكتب والأقراص المدمجة ويتوسط أحد الجدران شاشة عرض كبيرة بين سماعتين كبيرتين ، الغرفة خالية من الأثاث الا من مكتب خشبى كبير الحجم ومقعدان وثيران ويتوسط الأرضية الخشبية للغرفة بساط حريرى فاخر تنم ألوانه المتسقة مع ألوان طلاء الرفوف والمكتب عن ذوق راق وحس فنى مرهف يليق بشاعر.
وبينما أنا أجول بناظرى بين هذه الغنيمة من العناوين الجذابة اذا بطرقات مدوية متزايدة الشدة ترج باب الشقة رجا ، هرع جمال صوب الباب لاهثا مرددا لايمكن أن يكون هذا عامل المطعم ، أطللت برأسى خارج غرفة لأرى الزائر العنيف.
فتح جمال الباب الذى أوشك أن تفتحه أيدى الزائرين وكانت المفاجأة نحو عشرة من المسلحين اثنان منهما يرتديان الزى الرسمى للشرطة أحدهما برتبة رائد وتمركز فى وسط البهو بعد أن أغلق الباب باحكام بينما الآخر برتبة نقيب وباقى المجموعة من الملثمين وفى زى مدنى وجميعهم يحملون أسلحة نارية مشهرة فى وضع الاستعداد لاطلاق النار، انقض اثنان من الملثمين على جمال وطرحاه أرضا قبل أن يكبلا يديه خلف ظهره وقدميه ثم وضع أحدهم شريطا لاصقا على فمه وبمجرد أن لمحونى عاجلنى اثنان آخران من الملثمين لأجد نفسى بلا حراك بجوار جمال لم يبد كلانا أى مقاومة واستسلمنا للقيود وللتفتيش الذاتى وانتشر باقى الرجال الملثمون بقيادة النقيب لتفتيش باقى الغرف وقد نالت غرفة المكتب الحظ الوفير من الاهتمام .
انطلق مدفع الافطار واختلطت أصوات المؤذنين من مآذن المساجد المجاورة وأجهزة التلفاز والمذياع للجيران مع دبيب تحركات أفراد القوة على الأرضية الخشبية والجلبة التتى أحدثتها بعثرة محتويات الشقة ودق جرس الباب فتح أحدهم الباب بحرص مصوبا سلاحه تجاه فتحة الباب كان الزائر عامل التوصيل بالمطعم أطل برأسه داخل الشقة وصرخ متراجعا فزعا بعد أن ألقى مابيديه من أكياس الطعام وأغلق الباب مرة أخرى .
التفت برأسى ناحية جمال والتقت عيوننا محملة بالاتهامات كل للآخر فكما ظننت أنا بأنه المقصود بهذه الزيارة المفاجئة ظن هو أيضا أننى المطلوب ولذا ظل كلانا متماسكا لاعتقاده بالبراءة ، أعطيت هوياتنا وهواتفنا المحمولة للرائد المتمركز فى وسط البهو طالع الضابط الهويات بتمعن ثم أجرى مكالمة هاتفية لم أسمع منها الا تكراره تمام سعادتك ، أنهى الرائد المكالمة ثم نادى على النقيب بعصبية شديدة وأمره بفك وثاقنا بسرعة وأشار للجميع بانهاء المهمة ووضع الهواتف والهويات على الطاولة مرددا بصوت واضح حصل خير، اختفى أفراد القوة فى لمح البصر وأغلقوا باب الشقة وراءهم باحكام .
انتهي الفصل الأول المفعم بالحركة والصخب ليبدأ فصلا جديدا أكثر هدوءا
تبادلت انا وجمال مجددا النظرات التي تبث لوما وعتابا ثم اشحت بوجهي بعيدا عنه بعد ما أيقنت انني أخطأت بالثقة في شخص عرفته منذ أسابيع فإذا به طريد العدالة.
تناولت هويتي وهاتفي المحمول وعدلت من هندامى واتجهت صوب باب الشقة فسبقنى جمال إلي الباب وأعترض طريقي مشيرا بيده ان أتمهل قليلا تناول هاتفه واجري مكالمة هاتفية مع أحدهم فهمت من الحوار أنه ضابط شرطة استفسر منه عما حدث وأنهى المكالمة ثم نطق للمرة الأولى منذ أحداث النصف ساعة الماضية قائلا لي أرجوك أنتظر خمس دقائق سأشرح لك ما حدث ..كانت البراءة المرتسمة علي وجهه وابتسامته التي عاودت الظهور دافعا لي لأنتظر..فهل فعلا لا يعرف جمال أسباب ما حدث؟ وإذا كان متهما في جرم ما فلماذا لم يقتادوه معهم
مرت دقائق قبل أن يقطع رنين الهاتف حبل أفكاري المتضاربة وتابعت تعبيرات وجهه لعلي أفهم شيئ قبل انتهاء المكالمة فإذا بإبتسامة ترتسم على وجهه وتكبر حتي تملأه ثم تحولت الابتسامة إلي ضحكات مكتومة ..أنهى المكالمة وقذف بهاتفه علي الطاوله بطريقة متهورة أصبحت الضحكات مدوية بشكل هستيرى مع قفزات طفولية فى الهواء
وقفت ارقبه وانا مذهول جامد الملامح متصلب الجسد أقترب منى وقبل رأسى واحتضننى فسألته ببرود ما المضحك في موقف كهذا قال وهو يواصل ضحكاته براءة يا صديقي
الشقة المقصودة ٨ ش الملك الكامل- الدور الثالث- شقة ٣٢ ونحن ولله الحمد في ٨ ش الملك الصالح وليس الكامل…….تعالي يا صديقي الأفطار يحتاج لأعادة تسخين.
التعليقات مغلقة.