حكاية يرويها الخوف لأدجار ألان بو ترجمة بتصرف د. خالد العجماوي
-مقدمة:
تصرفت في ترجمة عنوان القصة، حيث أن عنوانها بالإنجليزية: The tale-tell heart..وهو إن ترجم صار “قصة يحكيها القلب” أو ” قصة يرويها قلب”، ولكني وجدت أن أتصرف في العنوان أفضل، حتى وصلت إلى ذلك العنوان المكتوب: “حكاية يرويها الخوف”..
هل تظن أنني مجنون؟!
صدقني لازلت أحتفظ بعقلي..ربما أكون مريضا بعض الشيء ولكني لم أفقد عقلي بعد!..في الحقيقة صارت حواسي حادة، ومشاعري صارت أقوى، كما أن السمع عندي أصبح دقيقا وحادا. لكأني أسمع أصواتا لم أكن أسمعها من قبل..أصوات كأنها أصداء تأتي من السماء..أو ..
أو كأنها تأتي من أعماق الجحيم!
اسمعني الآن يا عزيزي، وستعلم أني لازلت أحتفظ بعقلي.
لست أذكر كيف بدأت الفكرة في أول الأمر، غير أنها قد وجدت لها جذورا راسخة في دماغي منذ أن رأيت ذلك العجوز. لم أكن أكرهه. حقيقة كان رجلا لطيفا وودودا. ولكن عينيه كانت هي مشكلتي!
كانتا حادتين كنصل يكاد يثقب روحي، أو كعيني صقر مريع، يرمق فريسته في صبر وتأن، حتى إذا ما خارت قواها واستسلمت انقض عليها في شراهة كي يمزقها إربا. كانت برودة عجيبة تسري في أوصالي كلما نظر إلي بتلك العينين. لذلك اتخذت قراري يا عزيزي، بأنه لا بد أن تنتهي تلك النظرة المشئومة إلى الأبد، وأنه لا بد له أن يموت.
هل ما زلت تظن بي الجنون؟ وهل يستطيع المجنون أن يفكر أو يدبر خطة؟
شرعت في خطتي. كنت لطيفا معه جدا طوال الأسبوع الماضي..
وفي كل ليلة، وفي تمام الثانية عشرة بعد منتصف الليل كنت أفتح باب غرفته في هدوء، ثم أدخل يدي أولا، ثم رأسي..ثم أنتظر ساكنا، وفي يدي مصباح صغير مغطى بقماش سميك..كنت أزيح القماش في بطء حتى يتسلل من ضوء المصباح نور خافت لتظهر لي تلك العينين. في كل ليلة كنت أجدهما مغمضتين فتنتهي خطتي قبل أن تبدأ. لم أكن أريد قتل الرجل، وإنما كنت أريد عينيه. عينيه فقط!
كنت أزوره في الصباح، وفي ود أسأله كيف كانت ليلته وكيف نام. لم يكن يعلم أني كنت أزوره في كل ليلة في تمام الثانية عشرة، فأجده وقد أغمضهما إثر سبات عميق.
في الليلة الثامنة ذهبت إلى غرفته وبداخلي شعور أن خطتي ستنجح. كانت عقارب الساعة تجري كي تسابق يدي التي تفتح بابه في حذر. كنت أشعر بقوة في داخلي وقد صفا ذهني كي تنجح خطتي.
تحرك العجوز فجأة في فراشه. لم أشعر بالخوف، فقد كان الظلام حالكا شديد السواد ولم يكن بإمكانه أن يراني البتة. فتحت بابه أكثر، فتحته بنعومة وحذر. أدخلت رأسي، ثم يدي، وقد أمسكت بالمصباح وفوقه القماش السميك. انتفض العجوز فجأة وانتصب جالسا على سريره وهو يصرخ:
- من؟ من هناك؟
تسمرت في مكاني ولم أنطق. أرهفت سمعي فلم أجد إلا الصمت المطبق. كان العجوز جالسا على طرف سريره وهو يرهف سمعه بدوره. صدرت منه صرخة خافتة كهمهمة بدت خائفة. لم يكن يراني، ولا يسمعني، ولكن يبدو أنه كان موقنا بوجودي. أزحت القماش من فوق المصباح في بطء وثبات، حتى تسرب الضوء في الغرفة كشعاع هارب ليستقر عليهما. عيناه! تلك العينان الشريرتان!
كانتا مفتوحتين، واسعتين، تشعان شرا مستطيرا، وخوفا خانقا.
شعرت بالغضب يكاد يفتك بي وهما ينظران إلي..لم أر وجهه. عيناه فقط، بلونهما الأزرق الداكن الشرير الذي يجمد الدم في عروقي.
أكاد أسمع الآن صوت قلبه كمطرقة تدق على الحوائط حولي، أو كبندول ساعة يكاد يصيبني بالصمم. حاولت أن أثبت..كانت دقات قلبه تتعالى، وعيناه تشعان شرا داكنا وهما ينظران إلي في ذعر. كان صوت قلبه المذعور يعلو في أذني، بينما كان غضبي في نفسي كبركان يشرف على الفوران. كان غضبي مؤلما! حتى أنه تحول من غضب إلى خوف مقيت. كادت دقات قلبه تهز الجدران.. لم أتحمل، اندفعت نحوه صارخا: - مُت..مت!
صدرت منه صرخة فزع وأنا أطبق على أنفاسه في قوة..لايزال قلبه يهز الحوائط..لاحت مني ابتسامة وقد أيقنت بأن خطتي ستنجح. اهتزت الجدران لدقائق، ثم سكنت. وتوقف الصوت أخيرا..وسكنت جوارحه.
لن يقوم بإزعاجي مجددا..لن تزعجني عيناه..صار ميتا فوق سريره كحجر.
هل ما زلت تظن أني مجنون؟
حسنا.. استكملت خطتي الناجحة في تروٍ..قطعت رأسه، وفصلت ذراعيه وساقيه. كنت دقيقا حتى لا ينسكب مني دم على الأرض. ثم نزعت ثلاثة قوائم من الأرضية الخشبية، لأضع فيها قطعه بإحكام، ثم وضعت القوائم مكانها تماما. لن يلحظها أي أحد.
لما انتهيت سمعت صوتا على باب المنزل. كانت حوالي الرابعة فجرا، ولكن الظلام كان لايزال حالكا. هبط الدرج في هدوء وثبات وقد سكن غضبي وهدأ خوفي. فتحت الباب لأجد ثلاثة من الشرطة. قالوا إن أحد الجيران قد سمع صوت صراخ يصدر من منزل العجوز، فحضروا كي يفتشوا المكان. في ثبات طلبت أن يدخلوا. قلت إن تلك الصرخة قد صدرت مني وأنا نائم. وأن العجوز قد ذهب ليزور صديقا له في البلدة. طلبت منهم أن يجولوا في أركان المنزل، وطلبت أن يفتشوا جيدا. جيدا جدا! أخذتهم بنفسي نحو غرفته، بل وطلبت منهم أن نكمل حوارنا هناك. كان تحديا كبيرا، وانتصارا ساحقا لذكائي الباهر.
كانوا يصدقونني. كنت هادئا ومتزنا وثابتا. وكانوا يسألونني في ود، وكنت أجيبهم في لطف. ولكن وبينما نحن في حوارنا إذا بي أشعر بصداع عجيب. عاد ذلك الصوت من جديد..صوت المطرقة العالي الذي يهز الجدران، والذي يشبه البندول. تكلمت معهم محاولا أن أتناسى ذلك الصوت. ولكنه بدأ يعلو. تكلمت أكثر، ولكنه علا أكثر وأكثر!
بدا الصوت شديدا وواضحا، واهتزت الحوائط من حولي من أثر ذلك الصدى المقيت.
صرت أتكلم بصوت عال، وأتكلم في سرعة..هلا انتهيتم؟ لماذا تسألوني مجددا؟؟ يكفي هذا..صرت أسير في الغرفة في عصبية وذلك الصوت يعلو..وصوتي يعلو، وكلماتي تتسارع، ووجدت شبح ابتسامة عجيبة فوق شفاههم. هل تراهم لايسمعون ذلك الصوت مثلي؟
هراء! لا بد أنهم يسمعونه وإن أنكروه. إنه واضح كالشمس، وهادر كالرعد. بدأت أشعر أنهم يتلاعبون بي. إنهم يسمعون، ويعرفون.
كان الصوت يعلو، ويعلو.
صرخت فجأة وأنا أشير نحو قوائم الأرضية: - نعم! لم أعد أحتمل! إنه هناك..أنا قتلته. انزعوا القوائم وسترونه. صدقوني..
ظلت الجدران تهتز، لم يتوقف الصوت، بل ظل يعلو ويعلو.
التعليقات مغلقة.