حكاية أول كشف د. ابراهيم مصري النهر
بعد امتحانات السنة السادسة في كلية الطب وقبل ظهور النتيجة، اتصل بي أحد الزملاء وعرض عليَّ نصف دوام سهر في استقبال إحدى المستشفيات الخاصة، من الثانية صباحا حتى الثامنة صباحا مقابل عائد مادي ثلاثون جنيها على ما أتذكر، ترددت في باديء الأمر، طمأنني أن النصف الأخير من دوام السهر تردد الحالات فيه نادرا جدا، وأعطاني كتابا به أعراض كل مرض وكيفية تشخيصه والتعامل معه وعلاجه بالأسماء التجارية للأدوية، مما شجعني على الموافقة وخوض التجربة، واتفقنا على أن أبدأ من الليلة القادمة، مر الوقت سريعا وجاءت الليلة الموعودة، ظللت كلما اقترب الوقت من الساعة الثانية يزداد توتري وقلقي، في تمام الساعة الواحدة ارتديت ملابسي وشربت كوبا من الشاي، ثم نزلت يحدوني القلق، ركبت من محطة مصر الحافلة الموصلة للحي الذي به المستشفى، أنزلني السائق أمامها، كنت مترددا ومتوترا جدا، لأول مرة سأكشف على مريض وأتخذ قرارا مصيريا بالعلاج لتشخيص لن يراجعه بعدي أحد.
دخلت المستشفى، عرَّفت موظف الاستقبال بنفسي، رحّب بي، عرفني على الممرضة التي لاحظت قطرات العرق التي يتفصد بها جبيني، خففت من روعي، وأخبرتني -كما أخبرني زميلي الذي ورطني- أن النصف الأخير من دوام السهر غالبا لا تأتي فيه حالات، ووعدتني بالمساعدة إذا احتجت بما لديها من خبرة في مجال التمريض.
أدلفت في طرقات المستشفى برفقة العامل إلى الغرفة الخاصة بالأطباء وأنا ألهج بالدعاء أن تمر هذه الليلة بسلام ولا تأتي حالات، استلقيت بملابسي على السرير، وضعت رأسي على الوسادة، جاحظ العينين، كلي آذان متوجسة، أنظر إلى التليفون وكأنه قنبلة موقوتة ولا أعلم متى سيُنزع فتيلها.
في تمام الساعة الرابعة صباحا انفجر التليفون، أقصد رن التليفون، كان تأثيره على أذني أعنف من صوت الرعد، وعلى قلبي أشد من تأثير التيار الكهربائي؛ رجف قلبي، رفعت السماعة ولسان حالي يقول، استر يا رب، استر يا رب: آلووو.
موظف الإستقبال: حالة يا دكتور.
يا الله، انتابتني قشعريرة، جسدي كله يرتعد، لا أتمالك أعصابي.. لبست البالطو الأبيض، أحاول جاهدا أن أتماسك، مشوش الأفكار، مرتبك، أنتفض من داخلي، أبحث عن نظارتي في أرجاء الغرفة، على المكتب، على خزينة الأحذية، يا للهول، أين اختفت هذه الملعونة؟! …
يا لغبائي، أخيرا بعدما أضناني البحث ها هي الماكرة مستقرة على أنفي.
ركضت في الطرقة لأخفي ارتباكي ويظنه المرافقون إهتماما بحالتهم، لأجد فتاة في العشرين من عمرها، طُمِست ملامحها، أخفى الورم الشديد فتحتي عينيها، تشتكي من صعوبة في التنفس وهرش بالجسم مع ظهور بؤر حمراء على جلدها، ضغط دمها منخفض، أخبرني المرافقون لها أنها أخذت قرصا من عقار أحضروا شريطه معهم.
الحالة إذن حساسية عقار.. أعطيتها أمبولات مضادة للحساسية، بَدَأَتْ الحالة في التحسن التدريجي وبَدَأَتْ مع تحسنها الثقة بالنفس تدب فيَّ تدريجيا بالتوازي.
التعليقات مغلقة.