حكاية في ليلة شتاء
حكاية في ليلة شتاء
متابعة د.وجيهة السطل
وقف عبدالكريم صاحب أحد المطاعم الفاخرة وسط صالة الطعام شبه الفارغة، في توقيت عرف أنه وقت الذروة في الأسابيع والشهور الماضية، كان هذا الحال قد بدأ تدريجيا منذ بضعة أيام والزبائن تنحسر عن المطعم بلا سبب واضح !!
فهو لم يقصر في جودة الطعام أو يزيد الأسعار…
خرج عبدالكريم إلى الشارع الذي كان يزدحم بالمارة في هذا الحي الراقي التجارى، يتلفت بحثا عن سبب واضح لما يحدث. بالرغم من أنه المطعم الوحيد الذي يقدم أنواعا مختلفة عن باقي المطاعم حوله، وهو ما كان يميزه عن غيره، بالإضافة إلى شهرته في حفاوة استقبال العملاء، وسرعة تلبية رغباتهم التي جعلته مقصداً أساسياً للزبائن من كل أطياف المجتمع.
عاد عبدالكريم إلى مكتبه الصغير خلف المطعم يفكر بالقيام بأي إجراء يجذب به الزبائن مرة أخرى. هل أقدم خصومات أم وجبات بأسعار مخفضة، لا بل سوف أقدم وجبات مجانية للمجموعات والعائلات.
توقف عبدالكريم فجأة عن التفكير مع تذكر الوجبات المجانية، لينادي على شيف المطعم الذي حضر سريعاً ليسأله.
“هل حضرت أم أمل اليوم لتأخذ الطعام؟”
مط الشيف شفتيه بلا مبالاة ورد :
“لا لم تأت ، كما لم تأت في الأيام السابقة أيضاً”
اندهش عبدالكريم من إجابة الشيف ليسأله مرة أخرى :
“منذ متى؟”
“منذ عدة أيام حين كان المطعم مزدحما، وأقبلت لتأخذ الطعام كعادتها، ولكنك حينها صرخت في وجهها، ونهرتها بأن الوقت ليس مناسبا للشحاتة “
بهت وجه عبدالكريم وهو يتذكر تلك الواقعة التي قد نسيها تماماً، ولم يهتم منذ حينها أن يسأل عن تلك السيدة المسنة التي ترملت وهي في الأربعين من عمرها بأطفالها الثلاث، لتخرج وتعمل عدة أعمال شاقة متفرقة حتى أعياها المرض وأصبحت لا تستطيع العمل كالسابق. واكتفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق لتتكسب جنيهات قليلة تكاد لا تسد جوع أطفالها. وفي أحد الأيام مر بها عبدالكريم لتدعوه أن يشتري منها بعض الخضروات، و يجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم برغم الألام التي تشعر بها، وتحكي له قصتها…..
ومنذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه، ليعطيها ما لذ وطاب لها ولأولادها، ليظل هكذا لشهور طويلة دون أن تنقطع …
تذكر عبدالكريم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال المطعم في رواج ورخاء. تذكر دعواتها الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام مغلفاً كما يعامل الزبائن بالضبط.
خرج عبدالكريم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه في السوق، ليجد المكان مشغولاً بسيدة أخرى .. وليس لأم أمل أي أثر في السوق ، وقف شارداً يفكر كيف يجدها وهو لا يعلم أين تسكن ؟!
انتبه إلى إحدى البائعات تطلب منه أن يشتري منها، ليقترب في هدوء وعلى وجهه ابتسامة بسيطة ويسألها :
“هل تعرفين ( أم أمل ) التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟”
ردت السيدة وهي ترفع يديها داعية:
“اللهم خفف عنها و اشفها يا رب، إنها حبيبتي وحبيبة الجميع هنا”
فزع عبدالكريم من كلماتها ليسألها بذعر واضح :
“ماذا حدث لها؟”
لترد السيدة بعد أن زفرت الهواء بقوة :
“لقد عادت إلى منزلها في أحد الليالي ويبدو أنها كانت خاوية اليدين لا تحمل عشاءً لأولادها كما اعتادت، لتصاب بحزن شديد أفقدها وعيها وسقطت في الشارع لولا أن أنقذها بعض الناس الطيبين”
كاد قلب عبدالكريم أن ينخلع من مكانه فهو يعرف أنه السبب الرئيس فيما حدث، ليعود ويسأل السيدة والكلمات بالكاد تخرج من فمه :
“هل تعرفين أين تسكن؟”
ردت السيدة بالإيجاب ووصفت له مكان المنزل ليعود سريعاً إلى المطعم ويأمر الشيف بتجهيز طلب محترم من أشهى مأكولات المطعم ليحمله، ويذهب إلى ذلك العنوان.
لم تمر دقائق حتى كان عبد الكريم يقف أمام بيت أم أمل القديم في تلك المنطقة العشوائية وهو يسمع دقات قلبه تكاد تحطم ضلوعه، قبل أن يطرق الباب ،ويسمع صوت فتاة تسأل من قبل أن يجيبها :
من أنت ؟
“أنا عبدالكريم صاحب مطعم …”
لم يكمل عبدالكريم كلماته لينفتح الباب، ويلاقي فتاة بعمر ابنته وعلى وجهها ابتسامة صافية، تشبه ابتسامة أمها وهي ترحب به وتدعوه للدخول…
كان ظن عبد الكريم وهو يدلف من الباب أنه سيدخل أولاً إلى الصالة ومنها إلى غرفة النوم حيث الأم المريضة. ولم يعلم أن بيت أم أمل هو غرفة واحدة بها كل شيء.وليفاجأ على يساره بفراش وعليه تجلس أم أمل تتطلع في عينه بنظرات، ملؤها اللوم والعتاب. وصبيان يجلسان بجوارها وعيونهما معلقة باللفافة التي يحملها، بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة.
لم يعرف عبد الكريم من أين يبدأ وكيف يعتذر وهل هناك كلمات تداوي جرح كلمات ؟؟
اقترب منها بخطوات ثقيلة حتى شعرت بمعاناته وحن قلبها الرحيم فابتسمت، وأشارت إليه ليجلس على طرف الفراش، فجلس وتطلع في وجهها الذي أشرق بابتسامة رضا وترحيب، استقبلت نظراته باستحياء، قبل أن يبادرها بقوله :
“أردت أن أتناول طعامي معكم، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام؟”
هربت دمعة من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يئن من الإحساس بالذنب، لترد عنها ابنتها:
“أمي لا تتكلم منذ عدة أيام، ولا تكف عن البكاء”
أحس بغصة في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح وهو يفتح لفافات الطعام ويهتف.
“دعونا إذاً نطعمها ونحاول أن نسعدها”
وبدأوا في تناول الطعام وهو يحاول نشر البهجة في جنبات الغرفة الحزينة، ليبدأ أطفالها تبادل الضحكات وأمل تطعم أمها التي ابتسمت في عدة مناسبات قليلة، وحين جاء وقت الانصراف وقف أمام أم أمل يستجديها :
“سيدتي، لا أملك أن أستعيد تلك الكلمة التي خرجت من لساني دون وعي مني، ولكني أملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة، وأعرف أنك كبيرة القلب لن تبخلي علي بالصفح”
أشاحت بوجهها عنه. وعادت تبكي بكاء صامتا، ليقف لثوان طويلة منتظرا عفوها دون جدوى.أطرق برأسه نحو الأرض حزيناً،ثم تحرك ناحية الباب مغادراً،لكنه توقف فجأة على صوت أم أمل وهي تنطق بضعف :
“أشكرك يا أستاذ عبدالكريم، ربنا يسعدك ويسترك وينور طريقك”
كلمات بسيطة كانت تعدل عنده الدنيا وما فيها. الله ما اكرمها السعادة والستر والهداية ؟ما أجمل دعواتها. فهو لن يحتاج أكثر من ذلك، غادرهم وهو مفعم بالبهجة، ووعدهم أنه سوف يعود أمهم حتى تتعافى، بعد أن أعطاهم من مال الله قدراً معينا ، وفي الطريق عرج مرة أخرى على المطعم وما أن وصل هناك حتى هاله ما وجد.
زحام شديد بصالة الطعام وزبائن على قائمة الانتظار والعاملون كخلية النحل يكادون لا يستطيعون تلبية كافة الطلبات، اندفع إلى داخل المطعم وما أن قابل الشيف حتى حاول أن يستفسر منه عن سبب ما حدث فرد عليه :
“هل تعرف سعيد سرور؟”
“نعم إنه أشهر متذوق طعام في البلد”
“كان هنا وطلب عدة أنواع من الأطعمة وصور تجربته مباشرة على صفحته الخاصة والذي وصفها بتجربة رائعة مما دفع الزبائن للحضور كما ترى”
سأله بلهفة.
“ومتى كان ذلك؟”
“كان منذ ساعتين تقريباً”
نظر في ساعته وعرف أنه كان توقيت وصوله عند أم أمل، ليتعلم الدرس ويعرف أن العاطي يعطينا من كرمه لنعطي عباده. وأن الكلمة تحيي وتميت، والصدقة لا تنقص المال وأن الفقير هو من يتصدق على الغني حين يرضى ويقبل عطفنا وإحساننا ليتقبل الله منا ..
التعليقات مغلقة.