حياة بقلم سعاد الزامك
جلست أمام شاشة التلفاز، أتابع كل شاردة وواردة عن جائحة عمّت العالم، فصفّدتْ كل أبواب التواصل، واخترقتْ القلوب بجحافل أحزان على فراق أحباب دون وداع. تسمرت بمكاني عندما رن هاتفي رنة كانت تداعب شغاف قلبي فيما مضى، فتتراقص كل ذرة بكياني نشوة لسماعها. كم ظننت أني نسيت تلك النغمة التي عفّت مسامعي منذ أعوام.
-أحقا تذكرني الآن؟ ما السبب يا ترى؟ ألحنين غالبه، أم لإعلان خبر أخشى معرفته؟
لاينت مخاوفي ذكريات صبابتنا، ومشاهد عرس جمعنا، وليال طوال تآلفت فيها أحاسيسنا، وضحكات سامرت ضجرنا وقت البأس. قبضت على الهاتف بيد أرّجفتها المفاجأة، تصاعدت أنفاسي لهفة للرد، بينما حاول حدسي ردعي عن التمادي بالأمنيات. جاء صوته ضعيفا وكأن كل ضغائن ماضيه وحاضره ترقد على حنجرته.
-أحتاجك بشدة زوجتي.
-لِمَ الآن وقد نسيني لسنوات، تغافل عن كل خصالي الحميدة من قبل، ولم يتذكر مني إلا هفوة غير مقصودة أثارت حنقه؟!
هطلت حسراته وكلماته عن معاناته من ذاك الفيروس اللعين الذي أوشك على القضاء على ما تبقى من حياته البائسة منذ أن تزوج بالأخرى التي ناءت عنه خوفا من انتقال العدوى إليها، وتركته نهباً للإهمال الطبي والرعاية. استرسل بحديث عن غلظة طبعها، كشفت عن أنيابها بعدما تملكت زمام قلبه وحياته، ولم تكتفِ بما كالته لزوجها من شتى ألوان القسوة، فأمرته بترك زوجته الأولى كالمُعلقة دون عائل أو ونيس.
خامرني شعور بالرأفة على حاله المتدهور كما وصفه، وهممت على الموافقة، لكن خانه التوفيق عندما سمعت همهمات زوجته بضرورة استغلال سماحتي لخدمته. كبلني صمت لم أعلم سببه.. أكان صبرا لسماع أخبار ذاك الزوج الجاحد، أم إحساسا بنيل اليسير من حقوقي التي نهبها من قبل وتشفيا لجراحي الثخينة، ليتني علمت حينها ربما زالت ظنوني وهواجسي.
بعد إنتهاء المكالمة بإلحاحه الشديد لزيارتي له ورجاء بالعفو عما سلف، غلبني الشوق وقد حاصرتني لواعج وحدة ضربتها حولي قسوة الحياة. يممت وجهي شطر صورة معلقة بنياط فؤادي، حاولت إماطة غباراً لاح على ملامح أعتمها الهجر، كلما نثرت قطرات من حنين على لواعج روحي؛ لكزني مرار إجحافه. تفلتت دمعة رحمة على وجنة الصبر، هممت بطاعة رجائه، فأمرتني صولات جحوده بالثبات وعدم التفريط في الإباء. استعصمت ذاتي عن السقوط في هوة الخداع مجددا، نحرت لمحة من خذلان، غاصت إرادتي بين الضلوع، ومزقت الشرايين المتشبثة بذكرياته. وكأن القدر أراد أن يكافئني، ويمسح بلطفه على أوجاعي، رن الهاتف من جديد لأسمع نبأ خمود آخر زفير للزوج العاق، فارتدَّت إليّ شهقة حياة.
سعاد الزامك
17/6/2020
التعليقات مغلقة.