خروج من الكود”صفر”… معرض د سحر درغام بأوبرا القاهرة …بقلم د.منى رجب
خروج من الكود”صفر”… هو عنوان معرض د سحر ضرغام الذي أقيم بأوبرا القاهرة
تقول الدكتورة سحر : يتحمل العمل الفني مسئولية تفسيره لدي المتلقي – لذلك وجب الإعتماد عليه دون شرح لغوي مقروء- حيث أن لغة العمل التشكيلية هي الأساس بحلولها المبنية علي إستخدام اللون و مساحاته – الخط و تنويعاته – الآداء و تغيره ما بين الفرشاة و القلم و ما بين السطح القماش و الورق.
ولعل كتابتي عما أعرفه عن أعمالي وكيف بدأت الفكرة و ما الذي دعمها و كيف تطورت – و كيف أخذت كل تلك المكونات وطرحها بطريقتي علي السطح – هي التي تحمل فلسفتي عموما في الحياة ككل .لأنني أومن بالعلاقة المترابطة بين الفن و الحياة – لا أعرف أين و متي يبدأ أيهما، ولا أين ومتي ينتهي أيهما. لذا هناك نوعان من المعرفة يواجههم المتلقي مع العمل الفني : معرفة واضحة ومعرفة غامضة – قد تسهل المعرفة الواضحة لمكونات اللوحة من عناصر مرئية، مساحة التقارب بين المتلقي والعمل– أما المساحة الغامضة فهي غير قريبة وكبيرة جدا – وهي التي يستقي منها الفنان مصادر عمله – ويغوص أكثر داخل ذاته المتعددة الجوانب السطحية منها و العميقة و الشفيفة – لكي يلقي بدفقات شعوره علي السطح – هذا الغموض هو مصدر متجدد لا ينبغي كشفه لخدمة ديمومته- هذا الغموض طالما كان نقيا سيجتذب الفنان الي سبر أغواره.
وعلي مدار ما يقرب من الخمس سنوات منذ العام 2016 حتي العام 2021 – كانت معرفتي و فضولي و انجذابي يدور أولا : حول مدينتي التي أعيش و أعمل بها- الإسكندرية- و مدي عمق حزني لفقدها أو تلاشيها و كأنها تخلت عن إرادتها وآثرت السكون وقت الهدد.
كانت لوحاتي حينها تدور عنها و عني – وكأن المدينة تخاطبني، فإذا ما أغمضت عيناك، ستراها أوضح، لأنها غرست ضمنك حقيقتها. أن فقد (تغير) المدينة، لشعور محزن يستدعي الإنعزل والشعور بالإغتراب.
إن الشعور الأساسي هو الإغتراب عن عالمك الذي تعودت عليه، والحنين المصاحب لزمن قد فقد وبقايا مدينة تطمس معالمها. فما بين الشعور بالإنكسار، والفشل في إيجاد حلول، ومابين أن تقرر الإنعزال أو تحزن بهدوء وعمق علي ما تخسره،
أما اللوحة فتبدأ بشيء ما.. بفكرة، بعد بضع خطوات، تتحول الي شيء آخر، والانتصار الحقيقي لاستكمال اللوحة يكمن في تمجيد الاكتشاف القائم علي توظيف الصدف التي تطرحها اللوحة نفسها. قد تكون الصدفة خطا أو لونا أو مجموعة مبهرة من الالوان في تكوينها الجديد، والمبهر للفنان نفسه. لا قدسية لشيء إلا أللوحة، لا قدسية حتي للفكرة الاولي، المجد للتجدد ..ولترك الفكرة الاولي في مهب التجريب . ووسط العملية الفنية ..وإعادة اكتشاف مكنون اللوحة ..طاقتها الحنونة المتدفقة، ثم التأني في النظر ، وانتظار المجهول .
وتطورت معرفتي و فضولي و انجذابي؛ عندما أيقنت عجزي نحو المكان الذي أحب وأثر بي كثيرا و شكلني علي ما يقرب من الثلاثين عاما منذ انتقالي من بلدتي الأم – حينها تيقنت من تركيزي علي كينونتي و إنسانيتي التي شكلتها مدينتي الحالية – فكان الجهد ينصب علي كأنسان – كامرأة – كسيدة والطبيعة.
هذا الإنسان معمر الكون ، الذي هو جزء لا يتجزأ عن الطبيعة، منذ أولي خطواته علي سطح الأرض – ظل حاملا قداسته للطبيعة من حوله وظل يتعامل معها ويقاسي ليطوعها حينا لرغباته أو تنتصر هي عليه بإرادتها وجبروتها. هذا الإنسان هو الذي يحمل عنصري الوحدة بداخله ، الأنثي والذكر . وإذا ما رجعنا إلي العصور الأولي، سيتبين لنا معني تلك الوحدة في المخلوق المتحد في ذاته ” السيدة المقدسة “– المرأة الأولي.
“يقول كارل يونج: لا شئ يفقد أبدا في أغوار النفس ” ، هناك إتصال موجود في لا وعينا متصل بأسلافنا المغاوير الأقوياء – نحن إليهم ونحتاج أن نستمد قوتهم فينا – ونستشهد بهذا القول البديع ، ” أن نصبح أقوياء يعني أن نقابل روحنا المقدسة..”
كيف بدأت وكيف نشأت عقيدة المرأة المقدسة– كيف كان دورها في الخلق – و كيف كانت تنعم بالطبيعة من حولها تؤازرها وتسقوي بها – تستخلص منها مصادر لقوتها ثم تعيد تشكيل ذاتها – هذه هي سيدتي المقدسة – كيف أقترب منها و كيف أرد و أرجع ثانية الي عالمنا المعاصر – كيف تتشكل بوجودها و حيزها – كيف تتحرر من الحجم و الكتلة و التفاصيل التشريحية المحفوظة لتنعم ببراءتها و بحريتها و لعبها داخل سطح من القماش أو الورق – بأقلام الفحم و الرصاص و الباستيل الزيتي – أم بالأكاسيد و الأكريلك أو السواائل الزيتية علي سطح من القماش – الناعم أو الخشن – محاولات مستميتة و علي قدر الفهم و البصيرة للإقتراب منها . تطلعت إلي تلك المرأة بحكم أنها المصدر الأول للإنسانية،إستغرقت في محاولة البحث عنها ومحاولة فهمها وفهم دورها الإنساني ، والذي يعد هو المصدر لكل تاريخنا وحضاراتنا ، وكان الإستنتاج المباشر والنقي الوضوح ، أن هذه السيدة هي الكود للبشرية ، هي مصدر أفعالهم ومعرفتهم وسماحتهم وطيبتهم ، وفي نفس الوقت الكرامة والقوة وأصول قيادة المجتمعات . فهي الحنونة الحكيمة ، المعطاءة الخلاقة، المانحة للوجود ، والمتمسكة بيقينها، المتدثرة بالطبيعة والمتجهة لها دوما.
إمرأة مكتملة الوعي بحريتها رغم بدائية زمنها – قوية ومن قوتها يأتي تنوع حركتها في براح فراغ تشكله بكتلة جسدها. وفي الطراز البدائي كانت هناك فكرة مؤداها أن المرء إذا جهز مكانا سيكولوجيا وأعده إعدادا خاصا ، فإن الكائن – القوة الخلاقة – نبع النفس- سوف تسمع به – وتتحسس طريقها إليه ، ثم تسكنه .” فقد سكنتني هذه السيدة إتحدت معها وأصبحت أرى نفسي فيها.
ثم كان فضولي يتطور و ربما راودتني فكرة غرائبية مفادها فضول أكثر في البحث و الإقتراب من السيدة – حينما كاد الوجود أن يتشكل – يحاول الخروج من غموضه و يقاتل هيولي كبير لتتخلق الأشكال بإرادتها العفية، تكوينات تتخلق في محيط كبير، تقاوم انسحاقها عبر تخيلقها لجسد. فتتنوع الأجساد الناتجة، من الصراع بينها وبين الهيولي (المادة الأولي للتصنيع)، فهي تكوينات ترغب بشدة في انفصالها عن الوجود الغامض، والغموض ذاته يبغي انصهارها فيه. وهنا يحتدم الصراع، حتي تنتصر هذه المرأة المقدسة، لتشكل قدرها. إن هذا الطمس والتداخل مابين التكوينات ، لطالما أعطي العمل قيمة مستترة إلزامية للعين المشاهدة علي تدقيق النظر وعلي التساؤل عن أهمية هذا الغموض تشكيليا.
فمن تهيئة مسطح العمل إلي تخيل الحدس والدخول في عوالم قديمة لإستحضار غموض الخلق ماقبل التشكل، تقف الفكرة نقية علي أعتاب اللوحة.
إن تخيلق كائنات أخري مضافة إلي تكوين العمل كحيوانات متوحشة أو حيوانات مسالمة – هو جزء من علاقة تلك السيدة بالطبيعة – ببراحها و تنوعها – و مازال البحث قائم حول العلاقة الحوارية بين عقل الفنان ووجدانه ، وبين سطح اللوحة أو العمل – إن هو إلا حوار عميق به صراعات جمة. ليس فيها منتصر أو مهزوم-الإنتصار الحقيقي هو للعمل المنتهي، الكيفية التي إستقر عليها ووافق مخيلة الفنان وطموحاته – ليست بالصراع بل بالبحث عن الإنسجام.
ليس بالضرورة وجود تخطيط مسبق ، إنما يتم إختيار التصميم واللون المستخدم بشكل تلقائي حر – متفاعلا علي السطح بحسب الطاقة الشعورية الوجدانية ، مع إختبار خبرتها التشكيلية مع الطاقة التلقائية. ومن منطلق ذلك ، تعد كل لوحة هي عمل يسبب الدهشة لصانعه ، لا يخطط بل يستجيب للطاقة الإبداعية الملزمة بالمواجهة مع سطح اللوحة ويتم الحوار داخليا ما بين طاقة الشعور وما بين سطح فارغ أبيض.
لقد تشكل العمل من روحه ، ومن ألوانه الشفيفة، – فالعقل مشبع بتيمة العمل – إلا أن الوجدان يتحرك بمشاعر غير محددة أولا، ليتجسد التكوين ويتضح بالذهن بعد فترة من العمل الدؤوب.
إن الغرض من إستخدام طبقات لونية شفافة طبقة تلو طبقة، لهو مدلول بلاغي لتراكم المعرفة علي سطح اللوحة الواحدة – بل إن الإيمان بأهمية تلك الطبقات، تكمن في الإقتناع بأهمية خبرات الحياة، التي لا تأتي دفقة واحدة، بل تأتي في دفقات متصلة أو متقطعة – زخمة او ضعيفة.
إن الغرض من هذه التجربة ، هو تحقيق الإندماج والتماس مابين القوي البشرية وقوي الطبيعة، فمما لا شك فيه أنهم قوي تكمل بعضهم البعض، وتتطابق صفاتها فيما بينهم كذلك، فيستمد البشر القوة الخالصة من نقاء الطبيعة، وتستمد الطبيعة قوة الفعل والتحول من البشر.
لذلك إقتبست من رحلة هذه السنوات عنوانا أستشعر وجوده دون أن ألقي ثقلا عليه – ليتيح براحا في التلقي ولتتخلق مساحة بين المشاهد المتلقي و العمل و الفنان.
خروجا من الكود صفر سحر درغام – فبراير 2023
التعليقات مغلقة.