“خمسة وأربعون دقيقة”… محمود حمدون
” خمسة وأربعون دقيقة “
محمد حمدون
تنحدر سيارة ” أجرة ” تتلوّى برفق على طريق اسفلتي , يخترق أراض زراعية تمتد على مدد البصر , مسافة لا تزيد على أربعين كيلومترا تفصل بين بلدتين نائيتين , تقطعها السيارة في زمن لا يتجاوز خمسة وأربعين دقيقة تقريبًا , رحلة أسبوعية ظاهرها شقوة العمل وباطنها لحظات يسترقّها اثنان من العمر ,يجلسان دائمًا خلف السائق, يلتصقان شتاءً بحثًا عن دفء تضن به الحياة عليهما, يتقاربان صيفًا هربًا من البشر , خوفًا من تصاريف القدر ..
شهور امتدت لسنوات كثيرة , يتقارب الجسدان وتضيق المسافة بينهما , لكن تشتعل في الفؤاد جمرات النوى , تتسع الفجوة ساعة بعد أخرى كدوامة صنعها صبي يلهو بحصاة على شاطئ بحيرة هادئة , ظل السؤال يتأرجح : تُرى متى تأتي اللحظة الفاصلة ؟ متى يحين موعد الرحيل ؟ ذلك الذي ينحته الزمن بمخالبه القوية في أنفس مُترعة قلوبها بالريبة .
نفسان حائرتان , لحظتهما بسفري ذات يوم صدفة , فلمّا تكرّرت أقسمت أن أرقبهما , رأيت أحيانًا ابتسامة تعلو وجهيهما لطرفة طرحها رفيق على شريكة , سرعان ما تزول ليحل محلّها وجوم يعتلي الجباه فتُضطر العيون للبحث عن نجاة بين أعمدة إنارة على جانبي الطريق ,التي تندفع للخلف هربًا كمن يفرُ من بلدة أصابها وباء لعين .
لقد اعتاد الرفيقان والسائق والركاب الطريق , تعوّد الدرب بدوره عليهم جميعهًا , فباتت بينهم أُلفة , و بمرور الوقت بهتت الملامح و توارى كل شيء , بقيت علامات تنبئ عن بداية الرحلة ورجفة يرتعد لها الفؤاد قبيل الوصول .
التعليقات مغلقة.