خيانة بقلم عصام الدين محمد أحمد
يشُدني من وسط العُمال يدفعني إلى المكتب يطلب الدفاتر، يقول :
أثناء اغتسالي اكتشفت إن الأرباح ينقصها سبع آلاف جنيه .
أردد في سريرتي :
ما هذا الهوس ؟ !
أستخرج اليومية، أراجع الحسابات، لا أخطاء، فالأرقام هي الأرقام.
يتحرك بفزع، يمسك الدفاتر، يعيد الضرب والقسمة
يشعل لفافة التبغ، يستهلكه الوقت
يقتحم مدحت المكان، يُسدي النصح بإعادة الحسابات
لا ألتفت إلى تعقيبه المُتشبع بالاتهامات، ولا أعرف لماذا يكن لى العداء ؟ ؟
يرتدي قـُبعة الرقيب، يمحص إدارتي للعمل، ويرسم صورة مشوشة:
أيمكن لهذا الـ ( مدحت ) أن يوغر صدر محمد ؟ ؟ حتى يتهمني بخيانة الأمانة.
طيب … هل أنا – بالفعل – خُنت الأمانة ؟ ؟
أدعهم بصحبة الأوراق والدفاتر والهواجس
أقصد العُمال طالباً منهُم سُرعة إنجاز العمل، ما زال وجهي تكسوه الابتسامات، أتمم على أعداد الطرود والأقفاص، لا تشغلني دربكة سيارات النقل، ولا أنغمس – أيضاً – في الهدوء، أقلب ( عداية ) فارغة على ظهرها، أقعُد فوقها، أقفاص الطماطم تمتطي أكتاف الرجال، يمشون الهويني حتى لا ينكفئوا على وجوههم.
الأرض تمتلئ بشتى صنوف الزروع، أيمن الميلم يحضر الشيشة، يمازحني بالنكات .
ذهني لاه، تتجاذبه الأرقام والأرباح الموتورة، يُفكر في هذين القابعين داخل الحُجرة، واللذين يلتمسان دلائل الخيانة.
أجازة بدون راتب لمُساندة هذا الـ ( محمد ) المُرتبكة أعماله
سهر وشقاء ،بيع وشراء، وهو في شقته الفخمة، يُشاهد أفلام البورنو، لا تراه إلا صباحاً، يُمارس مزاد البيع، ويُدخن سجائر البانجو والحشيش ويستحلب الأفيون، ويحث المراسيل على جلب حبوب الفياجرا. وأنا أشيل وأحُط وأتخانق، وفي النهاية أخوًن الأمانة ! .
هأ … هأ .. أليست هذه ملهاة تحتاج إلى تشريح مجهري ؟ ! .
يُغادر المكتب
انهض متثاقلاً، أنظم الدفاتر والكراسات، أضطجع فوق الكنبة والتي تـُمثل للبق جنة وارفة الظلال، الميلم يسبقني بالشيشة ، حجر وراء حجر، أدخنة تتيه فخراً أو تذمُراً :
{ حُصان عفي يجوب الفيافي، يتخطى المتاريس، يبزغ نجمة ولا يملُك إلا أن يمتطيه الآخرون.
يلهبون ظهره بالسياط
يكر، يفر، يحُطه السيل من عل كجلمود صخر، الشاعر – دوماً – يدجج المعانى، يتسلق التلال كالرهوان، ولكنهم يشكمون خشمه بالصريمة.
أ يصهل ؟
لا يمكنه.}
ليس عليك الآن إلا إدعاء الإغماء، حتى تُبرر ولوج الحُصان المُخيلة.
ترسم مشهد هرولة العُمال لإنقاذك .بالتأكيد سيكون مشهداً نابضاً بالحركة، وفي الحركة بركة، هذا يرفعك من على الأرض، وذاك يشيل النار جيلة المُتقدة، ثالث يرشك بالمياه، ورابع يحوقل، وخامس و …. ونظام العمل يرتبك.
والسائقون يتشابطون، والشارع يتكدس بالعربات، وسُرعان ما تنُط العدوى إلى الشوارع المُتجاورة، وتتقلص بطونها وتتمغص.
ولا يشخص رجال المرور الداء، وبالطبع سيفشل الضُباط في فك لوغاريتمات السيولة، وفي الغرفة المركزية لأمن العاصمة، ستُـفسد أجهزة الكمبيوتر كل الحلول المُقترحة. وبناء عليه دعك من فكرة الإغماء !
ويمكنك الآن أن تتخيل شيئاً آخر، وليكُن مثلاً: النهوض ومُتابعة العمل، ويمُر اليوم ككُل الأيام، وتعود ريمة إلى عادتها القديمة، وكأنها لم تتعرض لمُضايقات ما .
فهذا الـ ( محمد ) لن يفهم أن سحوباته من الأرباح تعدت السبعة آلاف جنيه .
لا .. لن يفيد هذا الحل، وستمتطيك الأيام وأنت لا تملُك من أمرك سوى التوجع من سياط التبكيتً .
ثم لماذا الركون إلى الخيال ؟
بل عليك – الآن ولا مجال للتأخير – بالغضب وأرداف المسرح وطلاق العمل المُترع بالإهانات .
وها أنا في مقهي الموظفين بباب اللوق.
المقاعد مُتناثرة وفوقها عود يحمله صاحب النتوءات المُتجاورة فوق الوجه، تجالسه بنت قصيرة القامة، وأمامها زجاجات البيرة ،منها الفارغة ومنها المليئة وبيدها سيجارة توزع خيوط الأدخنة، ترفع ساقها اليُسرى فوق الكرسي، ويرافقهما هذا المُتصابي الصاغر خديه بين الأفواه المُتحدثة.
بالتأكيد أنهم يشتغلون بالسينما، يعدون لفيلمهم الجديد، والقصة فيها رجل، يبحث عن إمرأة غائبة،شاردة،تائهة، مع جُرعات البيرة تتوارد المواقف، ربما يذهبون إلى السوق !
ولكنهم لن يجدوني هُناك، ربما يعترضهُم مدحت، وفي جوفه حدوتة الساحر الشرير، ويسرب لهم مُغامرة الأنثى مالكة الصولجان، تتقنع بلباس أبيض، تدير في البيت حانة ، تخلط لفائف البانجو والحشيش، وتغلي في الكنكة الأفيون وفوق السجادة يرتمي محمد كالجوال، والباقي تعرفونه، فقد عهد المؤلفون مثل هذه النهايات.
ولا ينس مدحت رش البُهارات الحريفة على الخلطة؟
ولكن لماذا يذهبون إلى السوق ؟ !
يا سيدي غادرهم إلى الطاولة المواجهة لك.
شلة من الأجانب لباسهُم مكرمش، لم يخضع يوماً ليد الكواء، فتيات نحيلات وفتيان في أذانهم أقراط وبينهم
مدحت يعرض عليهم الحساب الختامي لتكاليف مشروع الإحلال.
للمرة الألف تنتحل الخيال.
أفي بلادهم أسواق ؟
بالطبع نعم .
فهُم لا يجيدون شيئاً سوى التسوق، ألم يكن مدحت في معيتهم ؟
النادل يتودد إليهم، ويجلب لهم زجاجات البيرة، ويغير لهُم الشيشة، يلكز في جيئته وذهابه البنت المُنفردة بنفسها، تنظـُر إليه وتضحك في عفوبة، وله أن يُفسر ضحكها كيفما يعن له.
أخيراً يهل باشا مرحباً، يكنيني بالعُمدة، يهمس في أذني :
أتريد هذه الجالسة ؟ !
ويستطرد :
أين صاحبك الطويل ؟ !
لا مجال في ذهني للمزاح، فصاحبي الطويل يُعد الخطط لإزاحتي من طريقه، عقلي يُسافر بعيداً ، فأخلف فيه مشروعاً واهنًا:
( سنوات وسنوات في السوق، من يد زئبقية ليد مُتجبرة:
أين أرباب السينما والربابة ؟
أين هم من حكايتي ؟ ؟ )
ألا ترى معي أن السفر من هذه المدينة فرض كفاية.
ربما تبلور الساعات القادمة أطروحة فلسفية لفك طلاسم الخيانة !
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.