داء قاتل يردى صاحبه
داء قاتل يردى صاحبه
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
إن العبد إذا كان في قبره يسأل عن ربه عز وجل، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن دينه، فإن كان ممن درسوا العلم الواجب وتعرفوا على ربهم عز وجل وعلى دينهم، وعلى رسولهم صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويثبتون الرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول الملكان: كيف عرفت ذلك؟ فيقول قرأت كتاب الله عز وجل فآمنت به وصدقت ، وأما الذين لم يعرفوا ربهم عز وجل، ولم يعرفوا رسوله صلى الله عليه وسلم، تعرفوا على كل شيء إلا دين الله عز وجل.
والجهل داء عظيم ، وشر مستطير، وبالجهل يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، فيرتكب من التصرفات ما هو فوق طاقته ، وما من صفة تزري بالإنسان وتجعله يلغي عقله كصفة الجهل، فالجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، ولأن الجاهلين يقفون في كل طريق ليس فيه علم رجما بالغيب، فتنتشر في المجتمع سلوكيات الجهلاء وأساليبهم ، ولذا جاء الأنبياء يكافحون الجهل، ويطاردونه في المجتمعات، ويحررون الإنسان من قيوده التي تزري به.
وتنزيها للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى أن يعرض عن كل جاهل، وأن لا يوليه اهتمامه، فقال تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) وذلك لأن الجاهل يستهلك وقته وجهده وسعيه ثم لا يستفيد منه في شيء ، وإن مما أوقع الكثير من الناس في المعاصي والفتن والمصائب والمحن كان بسبب الجهل الذي هو أكبر عدو للعبد، وصدق من قال: “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه”، فهو ينطلق في تصرفه حسبما يملي عليه هواه.
وإن الجهل داء خطير، ومرض عضال، إذا أصاب الشخص كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه وعقله بالعلم والتوجيه كان صاحبه خطرا على نفسه ومجتمعه، فالجاهل طريقه مظلم، ومستقبله غامض، ولا يرجى من ورائه أمل ، والجاهل قد يكون يقرأ ويكتب ويفهم الخطاب، وربما يحسن اللغات، لكنه جاهل، تصرفاته وتحركاته وسلوكه وطريقة كلامه طريقة إنسان جاهل، وإن لبس لباس الكبار ، ولهذا جاء ديننا بكل ما يفتح العقل، ويحمل صاحبه على الخلق العالي، والمبادئ العظام، وحسن التصرف، وطيب السلوك، ورجاحة العقل.
والجاهل موازينه مقلوبة، ومقاييسه غير منطقية، تقوده لكل شر ، ولذا يقول الحكماء: الجهل أبو الشرور، والجهالة أمها، وإذا بحثنا عن مصدر الشر وفاعله نجد أن الجهل هو المصدر ، فيجب على المرء ألا يخجل من الاعتراف بجهله، ويسعى لإنقاذ نفسه من ذلك الجهل، وخاصة إذا كان المرء يجهل عيوبه، حيث يصبح لزاماً عليه أن يعرف تلك العيوب ويتخلص منها حتى لا ينشرها بين الناس، فمن تربى على الجهل كبر عليه، وعبر عنه بسلوكه وتصرفه وخلقه ، ومن المؤكد إذا عرف الجاهل أسباب جهله يستطيع أن يتخلص من ذلك الجهل، ويصبح حكيماً ينتفع منه المجتمع، وينال من خيره، متّقيا لله تعالى في قوله وفعله وتصرفه وسلوكه.
ويخبر جابر بن عبد الله أنه خرج مع جماعة من أصحابه في سفر، فأصاب واحد منهم حجرا فشج رأسه، ثم هذا الرجل سأل أصحابه عن الغسل ورأسه مشجوج يسيل دما، فقال أصحابه: إنا لا نجد لك رخصة وأنت قادر على الماء، فاغتسل الرجل فمات ، فلما رجع الصحابة إلى المدينة أخبروا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك وكأني بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قد غضب غضبا شديدا حتى أنه قال: “ قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال” (والعي هو الجهل)، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتواه في هذا الصحابي، وهو أن يعصب على رأسه وأن يتيمم، أو أن يغتسل، وأن لا يصيب الماء موطن الجرح والشج.
وإن الجهل هو سبب في انتشار البدعة، وظهور قرون الظلام والظلم ، وداء الأمة العضال هو الجهل بالله، والجهل بأحكام الله ، والجهل هو داء الأمة، انظر اليوم كل الناس تتكلم بالدين تتكلم بالشرع، ما في أحد يقول: احترم نفسي فليس هذا مكاني ولا مقامي، ما دام معه مال يستطيع أن يتكلم فيما يشاء، وفي شرع الله يتكلم بما يشاء، يحل ويحرم، ويقدم ويؤخر، وصدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما قال في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الناس إنما يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا “. رواه البخارى ومسلم .
فاحرصوا على مجالس العلم والعلماء ولا تنقطعوا، واجعلوا بينكم وبين الدعاة والعلماء الصادقين من دعاة التوحيد والسنة، احرصوا عليهم، واجعلوا بينكم وبينهم جسورا دائما، فهؤلاء هم أعظم جسوركم إلى الجنة، وهم أعظم أبوابكم إلى الله، يعرفوكم مراضيه، ويجنبوكم مساخطه ، ولقد فضل الإنسان على الحيوان بالعلم ، فإن من الدواب من يأكل أكثر من بني أدم وإن منها من يتزوج وله أولاد أكثر من بني ادم وإن منها يعدو وفيه قوة أعظم من بني أدم فمتى خلى الإنسان من العلم كان على الحيوانية المحضة فلما أبى إبليس أن يسجد لآدم، وافتخر عليه بأصله ، فذكر الله شرف آدم على إبليس ، فكل الشرف بالعلم وأعظم العلم هو الذي يعلمني ماذا يريد الله، وكيف أنجو من عذابه وسخطه.
ولَقد وردت فِي القرآن الكريم آيات عديدة للتحذير مِن مَخاطِر الجَهل، ومِنها قول الله سبحانه وتعالي: ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) فلا يخفى على عاقل أن العلم أفضل مكتسب ، و أشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتني، وأطيب ثمرة تجتني، به يتوصل إلى معرفة الحقائق ، ويتوسل به إلى نيل رضى الخالق، وهو أفضل نتائج العقل وأعلاها ، وأكرم فروعه وأزكاها، لا يضيع أبداً صاحبه، ولا يفتقر كاسبه، ولا يخيب مطالبه، ولا تنحط مراتبه ، وهو وسيلة لكل فضيلة ، وذريعة لكل شريعة ، ونور زاهر لمن استضاء به، والعلم ترتاح به الأنفس إذ هو غدائها ، وتفرح به الأفئدة إذ هو قواها، وهو الدليل على الخير، وهو العون على المروءة ، وهو الصاحب في الغربة ، والمؤنس في الخلوة ، وهو الشرف في النسب ، فقال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) .
ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى العلم والعلماء الربانيين ، فالعلم هو السلاح القوي الذي يعيد لنا ديننا وأرضنا وثقافتنا وعزَّتنا، والعلم أرضٌ خصبة لإنباتِ رجال يعرفون ما لهم وما عليهم، من خلال أحكامٍ، وحدودٍ، وأوامرَ، ونواهٍ، هؤلاء الرجال سيكونون قادرين على تغيير هذا الواقع الأليم، وإعادة الانتصارات من جديد؛ كما كان الإسلام أيام العزة، هؤلاء الرجال لديهم القدرة على مواجهة الأفكار الفاسدة، والثقافات الضالة التي تأتي من الأعداء من خلال العلم الصحيح الذي يساعد على تصحيح العقول الفاسدة، وهداية القلوب الضالة، ويمد الإنسان بدلائل الخير والإرشاد، ويفتح لنا مجالات النعيم في الدنيا قبل الآخرة ، ويعيننا على قضاء حوائجنا دون إفراط أو تفريط، ويوجِّهنا إلى الطريق المستقيم .
وأن الجهل من أسباب الضلال والانحراف، فهو من أهم الأسباب لحصول الضلال والانحراف عن الحق لصاحبه ولغيره ، وهو سبب لانحراف كثير من الناس عن الهدى والصواب ، والجَهل يَمنع صَاحِبه مِن إتقان العمل والتقرب به بالصورة الصحيحة والسليمة التي ينبغي أن يكون عليهَا بسبب ما عنده من القصور ، والجهل سبب في عدم معرفة الأولوية في الأعمال الصالحات ، والجهل داء قاتل يردي صاحبه، والجهل أن يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه ومنه جهل بسيط، وجهل مركب ، فبسيط وهو عبارة عن عدم المعرفة مع عدم تلبس بضده ، ومركب وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة ، والجهل المركب وهو أن يسير المرء في حياته على جهل وهو لا يعلم أنه جاهل بل يظن نفسه على الحق والهدى … الدكرورى
التعليقات مغلقة.