دراسة الأستاذة القديرة سهيلة حامد للقصة القصيرة” كم ليلة” للأديب محمد كمال سالم
كم ليلة عنوان مثير تناغم مع الاستهلال والقفلة كما تناغم مع قلب النص.
متن حداثي يصور فيها السارد منذ المقدمة لحظة التأزم القائمة بداخل البطل، و كذلك الصراع الذي تجلى في قسوة هذا الأخير على بدنه وفي تعذيبه لروحه، ثم ينطلق في وصف أفعال الشخصية المحورية في المضارع (يضع يرقد يعانق) زمن حاضر القصة التي تترجم حالة الشخصية التي قدم لها بالاستهلال ليعيد تكرارها في القفلة في جملة مشابهة، مكتفيا بتغيير الزمن من زمن مضارع إلى زمن ماض مستبدلا فعل وضع بفعل ألقى( يضع،ألقى) وكأن الشخصية بذلك ألقت حملها واستسلمت لقدرها مع الاعتبار مما حدث وإن بدت تعانق سهادها المؤرق، غير أننا لا نستطيع إنكار نضجها وتطورها،
ليستحيل البطل شخصية كونية لقصة تتكرر في كل زمان ومكان،
فبإعادة نحته لصورة تمثال امرأته الرخامية التي عشقها هي الأخرى، تأكيد لحبه للحياة ولوفائه للمرأة في المطلق وللكينونة، فهو لم ييأس رغم تجرعه الألم، فبقوة العمل وبكد يده كان يأمل أن يسترجع قوة المال التي فقدها، مجسدا بذلك حب البقاء، غير أن مشاعره خانته من جديد فبعشقه للتمثال كما عشق الأخرى التي هجرته ننفطن إلى هواجسه وصدق مشاعره من خلال المونولوج: ” سأتوقف معك هنا هذه الليلة أخشى أن أنتهي منك، فأصحو ولا أجدك كما فعلت هي من قبل، فقد أمسيتُ أخاف أن أبيت وحدي.” مازاد في تعاطف القارئ مع الشخصية بعد أن تعرفنا على خوفها من الوحدة -مرض العصر- الذي بات يؤرق الكبير والصغير.
كما ساهم الحوار في إبراز عمق الفكرة من خلال التكثيف واستدعاء الأسطورة عبر الرموز (إيزيس، أوزيريس، وفينوس، وافروديت) على أثر افتعال مناجاة بين البطل المحوري والتمثال تذكرنا ببيجماليون لتوفيق الحكيم وأخرى بينه وبين شخصية اعتراضية طارق النافذة استوجبها تطور الحدث وكأنها تمثل شخصية النخاس في كل زمان مكان.
فثنائية الأضداد كالوفاء والخيانة ستظل قائمة الذات بين الرجل والمرأة تتعايش كما يتعايش الخير والشر في البشر المبني على ثنائية الرغبة والتضحية والطمع رغم النفور إلى حين قضاء المصلحة بتفعيل طاقة الاستغلال من دون حياء مستبعدين كل الأخلاق.. فالنص يعالج معاناة آدم وحواء والخوف من الوحدة، وحجرة سيزيف، وعبثية الوجود، وحب المال والخيانة..
الفكرة والموضوع:
تقوم الفكرة على بطل يبدد ثروته من أجل امرأة اكتشف أنها لم تكن أهلا لعشق كلفه خسارة كبيرة، هذا الوعي والإدراك كشف لنا عن نضج الشخصية المحورية أثناء تطور مسارها وتنامي الحدث الذي تطور من خلال استرجاعه لشريط أحداث
منتقلا بنا من ليلة إلى أخرى بعد أن اكتشف حقيقة الناس وتملقهم بعد أن سقط عنهم القناع، وبات هو شبحا، فصار قصره مهجورا، غير أنه بالرغم من كل هذا التغيير الحاصل في الزمن الذي قلب كل الموازين وبالرغم من أن آلة البيانو قد طالها التغيير والبلاء نتيجة الإهمال إلا أن حنينه لتلك الآلة مازال يطربه كلما داعبه بأصابعه السوداء.
كل هذا جعله لا يكترث لردود أفعال الناس الوقحة بعد أن سقط عنهم قناع التملق، وتغير معاملتهم له بعد أن صار فقيرا.
التشويق والحبكة: خدمهم الأسلوب واللغة البسيطة المنتقاة بعناية رهافة الحس فكانت بليغة ولادة للمعنى من خلال جمال التصوير السينمائي وحسن الإضاءة وأناقة التوليف الإبداعي السلس
كم ليلة
النص/ كم ليلة
يقسو على بدنهِ، يعنف روحهِ، يعذبها:
فلتتذوقي ويل ما فرطتِ في جنب نفسكِ.
يضع أزميله ومطرقته، جوار مخدعه ويرقد، يعانق سهاده المؤرق.
تأتيه ذات ليلة، لا يستطيع أن يرى، إلا وجهها الصبوح الرخامي الناعم، يُعدِلُ من خصلات شعرها الكثيف فوق جبينها، يبتسم لأول مرة منذ عهد بعيد، يتحسس جيدها المرمري، ينظر في عينيها العميقتين، يتأملها، سؤال وكلمات جاش بها فؤاده، آثرَ الآن أن يؤجلها.
هي غرفة واحدة أصبح يقطنها، من كل غرف هذا القصر المنيف، الذي تركته له والدته مع ثروة طائلة، قد ضيعها على زوجته التي عشقها، ولكنها لم تبادله هذا العشق، وأبت أن تنجب له، بل إنها استنزفته حتى آخر جنيه في خزينته، ثم هجرته.
بات عليه أن يتجرع الألم، أن يتكسب قوته من مطرقته وأزميله، من عمل يده، ما عاد يرتدي حذاءه الطبيّ إثر حادثة قديمة، وما عاد يكترث أن يرى الناس والجيران عَرجَتهُ، عندما يخرج مضطرا من غرفته المظلمة لقضاء حوائجه، فلم يعد في البيت خدم أو حشم، يُدهش كلما سمع الناس يدعونه كما الأيام الخوالي بشامل بك، كان لا يعرف أنهم يكنونه إذا استدار بالأعرج، عائش في زمن ضاع وانقضى ولا يدري، ينظر إلى القصر من بعيد وهو يبدو وكأنه قصر مهجور، هو الشبح الوحيد الذي كان يسكنه.
تبدَل كل شيء، حتى البيانو العتيق الراقد في بهو القصر الفسيح، طالته يد الإهمال، تحول صوته الرخيم إلى طرقات تصم أذنيه، ومازال يُطربهُ كلما حنَّ وعاد يداعب أصابعه السوداء بأنامله!
ينظر في مرآته، شعرهُ المُهمَل المجعد، لحيته المترامية في فوضى عارمة: لست أدري أأكرهك أم أشفق عليك.
ذات ليلة أخرى، استطاع أن يكشف عن كتفيها المكتنزين، يرتاح عليهما شعرها المنسدل كمعطف من حرير، نهداها الشامخان الأبيان كمدينتين استعصتا على الغزاة، عززَ من تحصينهما بوشاح رمادي من لون عينيها.
مرَّ بأنمليه فوق شفتيها، آن له أن يحدثها حديثا قد أجله وسؤالا:
من أنتِ؟ كيف لي أن أعرف؟
ربما تكوني إيزيس وظننتِ أني بضع أشلاء من أوزوريس! أو فينوس جئتُ لأمنحكَ الحب، أو أفروديت!
يقطع تناجيهما طرقُ على زجاج النافذة المطلة على الحديقة المهملة، يحاول أن يري الطارق، مصباح واحد فوق امرأته، وظلام دامس في الخارج.
يُحدث الطارق دون أن ينظر إليه، هو يعرف أنه الوحيد الذي يمرُ عليه في مثل هذه الساعة:
ماذا تريد؟ متى تنتهي منها؟
_لن أبيعها لك.
يمضى طارق النافذة وهو يتمتم بكلمات لم يتبينها، لكنه يعرف مغزاها.
نفضَ التراب من فوق وسادته ومخدعه، آوى إلى فِراشه يحدث نفسه: سأتوقف معك هنا هذه الليلة، أخشى أن أنتهي منكِ، فأصحو ولا أجدك كما فعلت هي من قبل، فقد أمسيتُ أخاف أن أبيت هنا وحدي.
في الليلة الأخيرة، كشف عن خصرها النحيف، ردفيها،فخذيها، ساقيها الملفوفتين في فتنة، ثم حدق في عينيها:
_ها قد انتهينا، صار لك قدمان، يمكنك الآن أن تغادري، هي أيضا هجرتني عندما انتهت مني، دون أن تنطق بكلمة مثلك.
لم تحول عينيها عنه، ولم تعره جوابا.
عاد طارق النافذة من جديد، لم يكترث له وأكمل حديثه لها:
ولكنك أكثر منها جمالا ووداعة، لا أريدك أن ترحلي؛ رغم شعوري بالجوع، ولكني لا أريد التخلي عنكِ.
يشطاط غضبا من صمتها، يصيح فيها:
ألا تريدين البقاء، أنا أحب أن تبقي، ألا تحبين؟ ألا تنطقين !
نسيت أنه لك قلب من رخام مثلها، سأحطمنك تلك المرة ولن أستكين ثانية.
يرفع مطرقته بكلتا يديه، يهم أن يهوي عليها يحطمها، يحول طارق النافذة بينه وبينها:
هون على روحك، هاك ثمنها ويفيض هو لك أفضل منها.
يحملها تاجر التحف ويمضي، بينما راح هو يودعها لاهثا بعينين جاحظتين.
ألقى أزميله ومطرقته بجوار مخدعه، يرقد يعانق سهاده المؤرق.
التعليقات مغلقة.