دراسة الدكتور د. محمد سيد الدمشاوي لقصة الأديب/ محمد كمال سالم
“بائع البليلا”
الدراسة/
بين ركام الواقع وأنشودة الضياع ـ قراءة خاطفة في قصة بائع البليلة للأستاذ محمد كمال سالم
ربما يكون من الصعب الكتابة عن حدث لم يزل يفرض وجوده على الواقع ، وما يزال الناس يعايشونه بقوة وتفاعل ، وذلك لأن الواقع المعاش في هذه الحالة يكون أقوى من أي تأثير آخر ، فالصورة المرئية للواقع المعاش بقوة تلغي أي تخييل يحاول الهرب منها عبر الاختفاء خلف رؤي كنائية أو ترميزية أو غيرهما.
لكن قصة بائع البليلة استطاعت أن تتجاوز هذه الصعوبة باقتدار، فقد تجاهلت محدودية الحدث ، وتجاهلت زمكانيته ، لتضعنا أمام زمكانية مجهلة تنأى بها عن هذه الإشكالية القائمة، ولا يربطها بها سوى شعورنا نحن وارتباطنا نحن بما يجري ، ولو قرئت بعد هذه الأحداث الساخنة لما وجد بينهما أي ارتباط بالمرة ، ومن ثم فهي تستقطب عبر هذا التجهيل أزمنة وأمكنة متشابهة وغير محدودة ،غُمرت بها الذاكرة العربية المكتظة بهذه المرارات على مر تاريخها الحديث ، لتضرب بأطنابها على موتيفات قارة، تصنع منها واقعا قصصيا جديدا لماض مكرور ، وحاضر لا يختلف كثيرا عن هذا الماضي الأليم، معتمدة في ذلك على الترميز الذي يأخذ بذهن القارئ إلى مساحات شاسعة من التأويل ، فهي تقف على هامش الحدث ، لتقدم رؤى بازخة تنهل من مرارة الواقع ، وتقدم قراءات علوية تبدو غير مقصودة بالمرة ، عبر الرموز المتناثرة في مساحة الحكي ، فبائع البليلة مجهول الهوية رغم ارتباطه الوثيق بالواقع وبجموع الناس ، ولم يشفع له تنوع انتماءاته العربية وانصهاره معها ، من خذلان الجميع له ، وفقدانه لأي نصير ومعين يدفع عنه ما ألم به من ضياع وقهر؛ لذا فهو يبحث عبر أغانيه عن أزمنة العزة والأمجاد المفقودة في الواقع الراهن ، والتي لم يبق منها سوى هذه الأغاني والأناشيد الجوفاء التي تتردد على لسانه دون أدنى فائدة ، ولا ينالنا منها سوى هذا الضجيج الذي مله الراوي وكره انبعاثه ، ثم عربة الجيش المتهالكة التي تجسد واقع الجيوش العربية في ماضيها وحاضرها ، بعد أن أبدت عجزها ،ونفضت يدها مما يحدث، وتبرأت من دورها المنوطة به ، فكانت كتلك العربة المتهالكة التي لا تقوى إلا على المشاركة في التهجير ، والمشاركة في الضياع الذي طال بطل القصة ، وأمات أجزاء من جسد الراوي في رحلته المريرة.
ربما تكون الرؤيوية هنا كارثية وسوداوية ، تشبه إلى حد كبير قصص العبثيين بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ، رغم اختلاف الواقع ، واختلاف الأيديولوجيا، لكنها تحمل في طياتها رؤية تحذيرية لما ستؤول إليه الأمور إذا استمر الحال على ما هو عليه
وإن كانت تجمل في طياتها بعض الأمل الضئيل الذي نلحظه في المفتتح عبر صورة النهار الوليد الذي يحاول التنفس بصعوبة بين الركام والأدخنة والغبار :
” شعاع النهار الوليد يحاول أن يتنفس بين الغبار وبين دخان المتفجرات، هواء الصباح الرطب ورائحة البارود يختلطان في صدري “
وربما نلحظه أيضا في أعمدة الإنارة التي لم تزل تنبض بالحياة وبالنور وبالثورة في نهاية القصة :
” يبدو أن السيارة الهاربة توقفت، يداي الميتتان على بابها قد تيبستا، الصورة ساكنة، لا شيء هناك غير أعمدة للإنارة عليها لافتات ثائرة “
لكنه أمل ضعيف ، ومحكوم عليه بالموت والسقوط : ” أسقط على الأرض، لا تستطيع قدماي أن تحملاني” ، ومحكوم عليه بالضياع ؛ فقد ضاعت العروبة متمثلة في ضياع عمي حسين، وفي توقف السيارة عن الخركة، وموت الأيادي وتيبسها ، وافتقاد الوعي بخطورة الأمر عبر تلك السيارة وسائقها اللذان يسيران على غير هدى ، دون هدف ودون دراية : ” نكاد أن نخر صرعى والسيارة لا تدري ولا سائقها” فالسوداوية غالبة على الرؤية تستمد قتامتها من ركام المنازل المهدمة، ودخان القنابل التي قتلت الحياة ، وغبار السيارة الهاربة من ميدان القتال.
د.محمد سيد الدمشاوي.
النص/ “بائع البليلا”
“آاا ع البليلا”
.
تأخرت عن اللحاق بالركب المهاجر من المدينة, هناك متعلقات بمسكني, لا أستطيع تركها خلفي, ساعة جيب أبي القديمة ذات الكاتينة الفضية, مصحف أحضرته أمي لي من الحجاز وخاتمها الذهبي, تركته لعروسي التي غادرت مع الركب منذ قليل, وقميص جديد أحببته, ادخرت ثمنه الباهظ من أجرة عملي اليومية. القصف يشتد ساعة بعد ساعة, وميض القنابل والطلقات النارية يشق عتمة الليل كبرق الشتاء في ليلة راعدة, أواجه صعوبة في تخطي ركام البيوت التي كانت عامرة بأهلها منذ قليل, أشياؤهم الثمينة متناثرة بين أشلاء ذكرياتهم, لا يستطيع أحد الالتفات لإنقاذها.
شعاع النهار الوليد يحاول أن يتنفس بين الغبار وبين دخان المتفجرات, هواء الصباح الرطب ورائحة البارود يختلطان في صدري, ها هو مفترق الطريق, لا أحد هنا سوى (عم حُسين) بائع البليلة, ذلك الشيخ الذي لم يغادر تلك الناصية منذ أن شببت عن الطوق, كان أبي يقول عنه: عم حسين ينطق بكل اللكنات العربية, يغني مواويلهم الجبلية القديمة, أغان شامية وأخرى أندلسية, لا نعرف من أين يأتي, أو أين يبيت , لا نعرف إلا أنه عربي طيب.
أشعر بالفزع, أراه شاردا حزينا, يراقب منتهى الطريق تارة, وتارة ينظر لعربته التي انقلبت والبليلة التي تناثرت فوق الأرض والطوار, حتى قروشه التي تناثرت , لا يحاول التقاطها وكأنه في غنى عنها.
توقف القصف، هُدمت كل الجدران، تمنيت لو أسأل الرجل:
ماذا نفعل الآن؟
هناك ما يشق السكون آت من بعيد .. شبح سيارة ثقيلة تخض الأرض في اتجاهنا, أستطيع أن أميزها الآن، أنها ناقلة جنود قديمة, كان عندنا يوما جيش, ولكنها فارغة ترتج بشدة وهي تحاول اختراق الطريق مسرعة, عم حسين يقبض على يدي، يجذبني نحو الطريق، تشتد قبضته كلما دنت السيارة, يجري بي نحوها, تخطتنا, إنه مُصر على اللحاق بها, طار نعلاه من قدميه، يدفعني، يساعدني في التشبث ببابها الخلفي, يلحق بي، ياله من شيخ قوي عنيد.. يدرك أنها فرصتنا الأخيرة للنجاة.
السيارة مرتفعة جدا, لا نستطيع الارتقاء فوقها, أصبحنا عالقين بأذرعنا على بابها الأملس المتحرك الخلفي, أحاول جاهدا إلصاق حذائي الرياضي أسفله, عم حسين يتشبث بأظافر قدميه, تنزلق أقدامنا كلما ارتجت العربة في مطبات الشوارع, نرتطم بجسم السيارة, نحاول التشبث من جديد.
.
لن أتكلم، سأحتفظ بطاقتي كاملة حتى لا أسقط, بينما راح عم حسين يغني بشجن، يتحدث بصوت عال دون توقف, يغالب صوت موتور السيارة المرتفع, رغم الهواء الذي يعُب فمه ويقاومه, كأنه يريد أن يُسمع أحد لا أراه
سأعود لساحة مسجدي الأموي من جديد, وأروح للغوطة وبستاني الذي أهوى, لينابيعك الرقراقة وروابيك الخضراء, سأعود إليك من باب كيسان, لسوق الحامدية الحبيب. آه يا مسجدي الأسير طال اشتياقي إليك, وستغسل يا نهر الأردن قدسي بمياه قدسية, وستشرق الشمس يوما فوق قبتك الذهبية. . تكاد راحتانا أن تدميا, نكاد أن نخر صرعى والسيارة لا تدري ولا سائقها, ليته يتوقف, امتلأت مقلتانا بالدموع من أثر امتلائها بالهواء واندفاع السيارة, وعم حسين مازال يصيح: الفنار مضيء يا بورسعيد, شيلّاه ياسيدي الغريب, لي حبيبة عندك ياقاهرة اسمها زينب, كم أتيتها ماشيا من كل فج من مجرى العيون باكيا.
أتمنى لو أن هذه السيارة تتوقف, ولو أمام فوهة مدفع, لم أعد أحتمل, أو أن يصمت هذا الشيخ.
دجلة أنتِ تجري مني مجرى الدم في الوريد, هل مررنا بالمسجد الحُسين ياولدي, أم ببرج بغداد؟ أخبرني بُنيِّ لو شاهدت منارة جامع الخلفاء الشاهقة. . سَكَتْ, سكت عم حسين هنيهة, أجاهد كي أطمئن عليه الهواء يضرب وجهه بعنف, يفض بنطاله الشامي الفضفاض وصديريته, طاقيته الصوفية مازالت فوق رأسه, أرخى بدنه على طول ذراعيه: أنت بخير عمي؟ يحاول الانتصاب من جديد, أضم يدي قدر استطاعتي, أحشر وجهي بينهما، أحاول التشبث بما تبقى فيِّ من عزم, الحمد لله، مازال بخير، عاد بصوت أكثر قوة: لو سمعت هناك جارة القمر فوق كل عمود للإنارة, على الروابي الخضر, خلف شجيرات الأرز, فاعلم أني من أخبرتهم أن يفعلوا ذلك, إنها حبي الأول, إنها بيروت.
.
يبدو أن السيارة الهاربة توقفت, يداي الميتتان على بابها قد تيبستا, الصورة ساكنة, لا شئ هناك غير أعمدة للإنارة عليها لافتات ثائرة, أسقط على الأرض، لا تستطيع قدماي أن تحملاني, ولكن….أين عمي حُسين؟!
محمد كمال سالم
التعليقات مغلقة.