دراسة لنص ” اعتزال” لرندا المهر بقلم الأديب /خالد القبوبي
النص ” اعتزال “
لقنني دروسا في القصة؛ سألته نهاية لبطل قصتي، فرخص لي في مسدس وسكين وحبل..
تركت الحبل وخذلني قلبي في شحذ المدية؛ حدجني وأطلق علي رصاصة الرحمة.
الدراسة:
هذا النص كالنقد الأدبي مسرودا أي هو كلام على الكلام، كتابة القصة بين النظر والتطبيق. وهو في التداخل بين الذات والموضوع، المؤلف ساردا وشخصية من قصته.
..
الفاعلان البارزان في النص أنا ( الذات الكاتبة) وهو( المنظر والناقد الأدبي).
الناقد معلم والمبدع متتلمذ. وهل الإبداع ينتظر دروسا؟ وهل للناقد أن يخط توجيهات ملزمة؟ أم هو يستقرئ من المدونة الأدبية خصائص النصوص وانتظامها في تيارات ومدارس ذات عناصر متعاودة صارت كالمبادئ لذلك الفن؟ لكن الأديب بقدر اتباعه لقواعد فنه تمرده عليها. فليس للأدب أن يجمد في قوالب مكرورة ممجوجة.
..
عموما السارد تلقى دروسا في القص. وما دام النص من جنس الققج فما تقدم من دروس وأجمل ذكرها كانت في ظني في العنونة وقد تمت بلفظة ( اعتزال). والغريب أن العنوان لا يلائم طور التعلم الموصوف في المتن إلا إذا كان مؤذنا بالقفلة الصادمة.
..
صلب المتن في حصة النهاية أو ما نسميه قفلة الققج. وهي نظريا أصعب ما في هذا الجنس. ورد هذا الدرس في حوار مسرد من مخاطبتين ( المتعلم السائل/ الناقد المجيب).
..
في سؤال الأديب المستعلم ربط بين الشخصية الرئيسية والنهاية. والققج قليلة الفواعل من باب الاقتضاب وقد نعتبر مصطلح البطل عتيقا. عموما ثمة ذكر لمفهوم البطولة وفيه تصنيف للفواعل. وذكر للنهاية ومن ثمة إدراك للحبكة القصصية وضرورة تدرجها صوب نهاية ما.
..
الناقد لا يناقش الأمرين: البطولة والحبكة إنما يرى النهاية متعددة فكأنه يوسع من حرية الكاتب لكنه يراها عنيفة فالصور الثلاث تنتهي بالقتل رميا بالرصاص أو ذبحا أو شنقا.
..
الاختيار بين الإمكانات الثلاثة أعمل فيه الكاتب معيارا ذاتيا لا موضوعيا. فترك جانبا اثنين منها على عكس ترتيب الناقد تخلى عن الشنق دون تبرير ربما لعتاقة الوسيلة وأعرض عن الذبح مبررا برقة القلب. أما الوسيلة الثالثة فلم يبد القاص رأيه فيها. فقد انقلب الناقد قاصا والقاص بطل النص. والناقد هو من أجهز على الكاتب بالوسيلة الثالثة العصرية وهي إطلاق الرصاص.
..
في الاستعمال اللغوي الشائع أن رصاصة الرحمة هي إجهاز على المحتضر أو الجريح لا ترجى سلامته إشفاقا عليه من العذاب.
..
هل ننهي القصة لحظة تنتهي الحبكة فما عاد مبرر للتطويل؟ هل الخاتمة تتم وفق معيار فني لا وجداني أخلاقي؟ أليس للأخلاق محل في نسج السرد؟
..
نعلم القفلة صادمة وقفلة هذه القصة هي كذلك فعلا. فقد انقلبت الأدوار وشهدنا مصرع السارد وإنا لينتابنا الدهش حين نرى ساردا أطلقت عليه رصاصة الرحمة ينهي نصه.
..
لكن القارئ مستعد مسبقا لتصديق ما لا يصدق في الواقع ويجوز في التخييل.
..
من مباحث الأدب أن يتأمل ذاته في مرآة النقد ينجزه الأديب لا الناقد. فللأديب رأي في شروط الأدب وله أحيانا جدال مع النقاد وعدم رضا عن أحكامهم.
..
ماذا لو قرأت النص بشكل مغاير قليلا. فالصوتان في القصة مرجعهما واحد هو الكاتب إذ يكتب يصف عسر مخاض نصه. فهو يحبر وعينه الناقدة تراقب وتراجع وتعدل والكاتب هو كذلك بطل قصته. فهو الذات والموضوع. وقد تنشأ بينه وبين فواعل نصه ألفة وتطابق. وربما اقتضى منه السرد أن ينهي حياة بطله بصفة درامية. فشق ذلك عليه كأنه انتحار وليس قتلا. لم شهوة القتل في النص؟ هل في موت البطل موت الكاتب؟ أخشية الإفصاء وجفاف القريحة يهدد الكاتب بين تأليف وتال؟
نهاية الحياة هي الموت بهذا الشكل أو بذلك. اختلفت الأسباب والموت واحد.
هل موت الكاتب من موت البطل؟ أحرق التوحيدي كتبه لما عدم القراء وضن بمؤلفاته أن يمتهنها من لا يدرك نفاستها. وانتحر همنجواي وكان سأل لمن تدق الأجراس.
خاتمة مأسوية عزت على الكاتب فنهض بها بدله الناقد فيه. وفراغ المرء من التأليف كالحامل تلقي حملها. أوجاع الطلق وحاجة إلى راحة ريثما تستعاد العافية ورغبة الكتابة مجددا.
التعليقات مغلقة.