بين محاكاة الطبيعة والغوص في أعماق الذات
دراسة نقدية تحليلية لقصيدة” العش لم يعد دافئًا للشاعر / سامي دياب نقد وتحليل/ أسامــه نور
النص :-
العش لم يعد دافئًا !!
ثمة فارق ليس بالرحيمِ ..
بين انطلاق الرصاصِ
من فوهات البنادقِ
بدعوى العناق ؛
وانطلاق العصافير الخضراءِ ..
من فوهات النوافذ فى الصباح
لتوقظك من النوم .
هم لم يدركوا كَمَّ الثقوب التى
خلفتها شظايا تلك ” الفعلة “
وكَمَّ يمام الروح الذى غادر مذعورًا
فى غيابات المدى .
يا أنا .. ماذا فعلت
ليتربصَ بك الصيادون هكذا ؟!
ألأن طيبتك تمنعك عن الوثب احيانًا
من السهل أن تتفادى الرصاصةَ
هذه المره
لكن كيف ستعيد اليمام الخائفَ
إلى قلبكَ
وهناك فخٌ مخبأٌ له بالداخل ؟!.
مقدمة:-
مهما اختلف النقاد حول قبول شكل شعري، أو رفضه يبقى الحُكْم إلى الإبداع ومدى الشاعرية في النص الشعري من قصدية وآليات وفنيات.، تجعلنا نشعر بالنص ونتماس معه ونعجب به “الإبداع في المضمون “
وفي رأيي أن الانحياز لشكل شعري ورفض ما سواه
هو نوع من العبث والجهل بالمفهوم الواسع للإبداع …
لأن الإبداع يحدده مقومات وآليات تهتم بالقدرة على التعبير
وإيصال الفكرة بشاعرية وجمال لتسعد بها النفس ، وتتماس معها ،ومع القدرة على التصوير والتجديد فيه …
لهذا فإن النص العمودي الموزون والمقفى له جلاله وهيبته منذ القدم ، لكن الوزن وحده لا يكفي لنحكم على قصيدة عمودية موزونة ومقفاة أنها إبداع ..دون النظر للمضمون والتجديد فيه ..
كما أن شعر التفعيلة له آليات لا يمكن أن نتركها ونركز على الوزن فقط..
وكذلك شعر النثر أو النثر الشاعري …له آليات وضوابط أهمها توفر الإبداع والتجديد في الصورة والعمق الفكري والشعوري
والإيجاز ، ورسم الصور الكلية ..والغوص داخل الذات والتعبير عنها.. ومحاكاتها بالطبيعة ..والاعتماد على الإيقاع والموسيقى الداخلية ، وقوة الجملة والدهشة .والتعبير عن الحداثة وما بعدها ..
العنوان :”التغير النفسي وعلاقته بالمكان “
العنوان ” العش لم يعد دافئًا” وهو مدخل لدراسة النص يمثل نصًا مصغرًا للنص الأصلي فهو يحمل المحسوس العش
و المعنوي الدفء وكلاهما رمزان فالعش رمز للمكان الآمن السعيد ..والدفء رمز وإيحاء بالرضا والسرور والعلاقة الحميمة بين الجميع ..لكن جاء النفي ” لم يعد ” لينهي هذة العلاقة فلم يعد العش هو الملاذ ولم يعد هناك سرور ولاحب متبادل ..ومن هنا جاء العنوان كاشفًا للنص …
وفي رأيي ..أن كلمة العش حددت من تعدد دلالته ..وكشفت النص مبكرًا ..فلو كان العنوان ” لم يعد دافئًا “
كان يعطي فرصة للتخيل والتساؤل ..ولكن الشاعر أراد بالعش القصدية ، وتوضيح الصورة وكشفها للمتلقي …
بين الشكل والمضمون “
القصيدة تنتمي لشعر النثر أو النثر الشاعري فلا وجود للوزن أو القافية …ولكن الشاعر يستعيض عنهما بالإيقاع المتناغم والموسيقى الداخلية والحركة..والأساليب الخبرية والإنشائية ،والتصوير الكلي والجزئي ..ويعتمد على التكثيف
والإيجاز .. نص ذاتي يعبر عن مآساة الشاعر والصراع النفس
وعلاقته بالآخر …
فيقول في بداية النص :-
ثمة فارق ليس بالرحيم
بين انطلاق الرصاص
من فوهة البنادق
بدعوى العناق
وبين انطلاق العصافير الخضراء
من فوهة المنافذ في الصباح
لتوقظك من النوم .
هناك مشهدين ومقابلة فيبدأ الشاعر بجملة خبرية تقريرية
بوجود فرق بين إنطلاق الرصاص ..أي بين من يحيك بك المآمرات ويبني لك الشرك للإيقاع بك ..بدعوى العناق اي ظاهره الحب وباطنه الكره والقسوة ..
وبين من يريد بك الخير والحب كالعصافير الخضراء التي
نستيقظ على تغريدها في الصباح ..صورتين كليتين تظهران الاختلاف والتباين
ثم يقول الشاعر:-
هم لم يدركوا كَم الثقوب التي
خلفتها شظايا تلك الفعلة
وكم يمام الروح الذي
غادر مذعورًا
في غيابات المدى
التعبير ب “هم”ضمير الغائب ..يعبر عن وصول العلاقة لحد التباعد النفسي…والمكاني ويدل رغم ذلك على مرارة الشاعر
والإيذاء النفسي الواقع عليه..من تلك الفعلة
فيصور بحرفية هذه المأساة ويحاكيها بالطبيعة مستخدما يمام الروح الذي غادر مذعورا ..واليمام رمز للوداعة والصفاء
ومغادرته روح الشاعر أي غادره الصفاء واللطف الذي كان يتمتع به مع مَن أساء إليه.
ثم يقول:-
يا انا …ماذا فعلتَ
ليتربص بك الصيادون هكذا؟!
تساؤل ماذا فعل حتي ينقلب من يحبهم عليه ويتربصون به
سؤال للتعجب الاستنكار ..
ثم يقول ألأن ألوانك الزاهية تذكرهم
بقتامة روحهم
الافتخار بالنفس والزهو بها في مقابلة ضألة الآخر وعجزة
قد تكون سببًا للكره والحقد
بقتامة روحهم ..لم يقل أرواحهم ليدل على وحدة الفكر لديهم
وتشابههم في ظلمة الروح..
وينهي بقوله:-
من السهل أن تتفادى الرصاصة
هذه المرة
لكن كيف ستعيد اليمام الخائف
إلى قلبك
وهناك فخ مخبأ له بالداخل ؟!
نهاية تعكس الصراع النفسي والتساؤل والحيرة والبحث عن سبيل للخروج من هذه المعاناة ..
كيف سيعود للسلام معهم ..وهو يشعر بمحاولاتهم للإيقاع به ..
الشاعر يستخدم الشكل الحداثي وكذلك جاء التناول حداثيًا
فيه تجديد.
المفردات والأساليب …
يعتمد الشاعر على المفردات الفصيحة السلسة …وعلى الجمل
المتناسقة ذات الإيقاع الرنان ..لكن التراكيب والإساليب والصور هي التي شكلت الجو الطبيعي والنفسي .وهي التي عكست الدراما داخل النص فقد أجاد الشاعر في بنية النص
فجاء متماسكًا واعتمد على الحبكة الدرامية المتوازية فهي
تسير من بداية النص لآخره …
كما استخدم الأسلوب الخبري التقريري والإنشائي
الخبري مثل ثمة فارق بين… هم لم يدركوا للتقرير والتأكيد
من السهل إذًا أن تتفادى الرصاصة .
وأكثر من الأساليب الإنشائية وخاصة الإستفهام بإغراضة البلاغية ليثير الذهن ويحرك الفكر ويشرك المتلقي في الحدث الدرامي ..مثل النداء ياأنا ..لتنبيه الذات ومحاورتها
والاستفهام في ماذا فعلت ليتربص بك الصيادون هكذا؟!
التعجب ..والحيرة …
في… ألأن طيبتك تمنعك من الوثوب أحيانًا؟
استفهام للتقرير على نفسية الشاعر الهادئة المسالمة التي تجعل الآخر يحاول المكر به ..
وفي الاستفهام الرائع.. كيف ستعيد اليمام الخائف إلى قلبك
وهناك فخ مخبأ له بالداخل ؟!
تعجب كيف سيعيد السلام والأمان والوداعة..وهناك من يفتعلون له المشك**” الرمز والصور الشعريةلات بداخل العش أو يشعلون قلبه ألمًا وحسرة …
الرمز والصور الشعرية
الصور الشعرية من أهم آليات الشعر مهما كان شكله …ولكن في شعر النثر يجب أن تكون جديدة متعددة كلية وجزئية تعكس الحالة وتظهر الصراع والدراما ..وكذلك الرمز والإيحاء
مثل الرمز في العش ..الرصاص …الثقوب ..الصبح ..اليمام وغيرها
والصور مثل :- انطلاق الرصاص بدعوى العناق
وانطلاق العصافير الخضراء
من فوهات النوافذ في الصباح..
صورة كلية فيها مقابلة تعكس الحالة
وكذلك ..خلفتها شظايا تلك الفعلة …وامتزاج الصورة بالرمز في هم لم يدركوا كم يمام الروح الذي غادر مذعورا في غيابات المدى .. والصورة الختامية في كيف ستعيد اليمام
الخائف إلى قلبك
وهناك فخ مخبأ له بالداخل ؟!
فالشاعر لدية قدرة على رسم الصور الكلية والجزئية وتشكيلها ومزجها بالطبيعة والرمز …
وهكذا نجد الشاعر استخدم شكل القصيدة النثرية أي الشكل الحداثي ولكن جاء المضمون أيضًا حداثيًا من خلال التجديد
في البنية والصور والتركيب وحقق الإبداع من خلال تصوير الصراع النفسي مزجه بالطبيعة
في تشكيل درامي وصور رائعة جديد وصدق فني وإيجاز وتكثيف …كما أن هناك حركة وحيوية وتناغم إيقاعي ..جعل النص يتماس مع الآخر ….
يبقى من وجهة نظري:-
لعنوان رغم دافعيته لكن كان كاشفًا جدا للنص ..وكان ممكن الاكتفاء ” لم يعد دافئًا”
رغم الإيجاز لكن هناك جمل كان يمكن الاستغناء عنها
مثل من فوهات البنادق. لأن إنطلاق الرصاص يدل على مادته
…وكذلك ..”. لتوقظك من النوم” لأن الصباح وقت اليقظةكما أنه رمز الجمال والنقاء والحب بشكل عام والرغبة في الخير فذكر الوقت بدلالته يغني عن تحديد ماهيته وفائدته..
النداء” ياأنا ” الشاعر ليس في حاجة لنداء نفسه وتنبيهها لأنها حاضرة تستصرخ الألم وتبحث عن النجاة..
خاتمة:
الشعر هوما حقق الإبداع والإمتاع… تجاوز المألوف ليطوف بنا في عوالم الجمال والخيال ..وهذا ما تحقق في قصيدتتنا. “العش لم يعد دافئًا”
غير أننا نتمنى أن يمتلئ العش بالدفء وأن يعود اليمام إلى قلب الشاعر …
تحياتي …..أسامــه نــور
التعليقات مغلقة.