“دراسة نقدية تحليلية لقصيدة ” تداعيات العشق المجنون “للشاعر الأستاذ الدكتور /د.عصمت رضوان أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر .. نقد وتحليل أسامـة نور
“دراسة نقدية تحليلية لقصيدة ” تداعيات العشق المجنون “للشاعر الأستاذ الدكتور /د.عصمت رضوان أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر .. نقد وتحليل أسامـة نور
” الحركة والتناغم الصوتي في ماهية العشق والإبداع” بقلم أسامة نور
“جزء من النص “
هجرت في واحة الأعراب عاداتي
وودعَتْ مهجتي ربع الحبيباتِ
بانت “سعاد” فما عرجت مبتسمًا
على الطلول ولا أوقفت ناقاتي
وزارني طيف” هند ” ما عنيت به
ولا أثارت “سليمى” بعض لوعاتي
قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
وهمت أنشد عند العرب حاجاتي
في حسنها الفرد لا ألتى لها شبهًا
في عالم السحر أو دنيا الخيالاتِ
قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
ورحت أنشد عند الغرب حاجاتي
قد توجت لنساء الأرض سيدة
لله در أبيها بنت ساداتِ
غريسة العز في أرض الملوك نمت
وسقيها ترف في أرض دوقات
غريرة في زمان الطيش قد عبثت
بحكمتي في الهوى أخت الغريراتِ
صغيرة أهرمت قلبي ولا رحمت
يا ويح قلبي من لهو الصغيراتِ
جعلتها قبلتي في كل حادثةٍ
وخلتها في ظلام الخطب مشكاتي
غرقت في بحرها اللجي وانكسرت
بموج فتنتها الطامي شراعاتي
مصعد في قيود العشق تثقلني
هذي السلاسل صاغتها صباباتي
وهبتها القلب لا أبغي به ثمنًا
إلا رضاها فهل ترضاه مولاتي
وهبتها الروح مالي بعدها أملٌ
جعلتها في الدنا مأمول غاياتي
وهبتها الشعر من قيثارتي غردًا
تشدو بفتنتها العصماء أبياتي
وهبتها الوطن الغالي وما نقشت
انامل المجد في أبهاء ساحاتي
النقد والتحليل :-
مقدمة :-
إن الإبداع ترجمة للمشاعر والعواطف ، والواقع الذي يعيشه الإنسان ..والشاعر يختلف عن غيره؛ لأن لديه شعورًا فطريًا وإحساسًا مرهفًا، وموهبة من الله سبحانه وتعالى تجعله قادرًا على التعبير عن خلجات النفس البشرية وعواطفها ، وعن الواقع ،كما أنه يصوغ مشاعره وفكره بحيث تتماس مع الآخر ، وتجد صدى لدى المتلقي والسامع …
و في رأيي أن “كل شاعر فيلسوف ،وليس كل فيلسوف شاعر ” …
فهل يكون الفن للفن والمتعة فقط كما ذهبت نظرية الفن للفن ،أم يكون الفن للمجتمع ومعالجة قضاياه ومشكلاته دون التقيد بفنيات الإبداع .
لا شك أن الفن والآدب هما مرآة المجتمع ، وقلبه النابض ..
وميزانه الذي يبصر ويوجه ويرشد …
ولكن كلما كان الفن والأدب يعليان من شأن المجتمع ويعالجان القضايا المجتمعية والوطنية والإقليمية ..مع
الاهتمام بالجماليات والفنيات وتحقيق الإمتاع ..كان الإبداع
متحققًا والفائدة قائمة.
لهذا فمن رأيي” أن الإبداع شرط في العمل الأدبي مهما كان غرضه . “
ومن سمات الإبداع التجديد على مستوى البنيةوالمضمون ،واختلاف زاوية التناول ،ومكاشفة الوجدان بطرح جديد،وآلية تعبيرية غير نمطية ،مشتقة من رؤية تتوازى مع المشاعر الوجدانية ؛ تبعث الخلق الإبداعي ،الحركة والتناغم والتنغيم داخل النص ،وتحقق الدهشة والإمتاع ..بحيث يتماس معها المتلقي ،وتشكل اللاوعي الجمعي .
فيكون بمثابة زاوية إنعكاس لبقعة ضوء صوتية تتمادى في الأفق الذهني ،والوجداني له..
والشعر هو فن التعبير الذاتي ،وكلما أتقن الشاعر التعبيرعن ذاته ،تأثر الآخر به وتماس معه ،فتتسع الحالة الذاتية لتصبح توجهًا تعبيريًا عامًا.
فالشعر خاص لكنه يعبر عن التشكيل الوجداني العام . عن ديناميكية الذات وتمردها والرغبة و المكاشفة والتحرر .
———-؛؛؛؛؛؛؛———
** ” العنوان ودلالته “
إن للعنوان دوره المؤثر في النص ؛ فلم يعد العنوان مجرد كلمات ،تُقال في بدايته ، بل أصبح جزءًا من النص لا ينفصل عنه ،بل هو عتبة رئيسة من عتباته، وهو نص مصغر يدل على النص الأصلي ، وكلما كان العنوان مؤثرًا في عاطفة المتلقي ويثير فكره ،كان ذلك محفزًا له على قراءة النص واكتشافه..
لهذا ظهر حديثًا ” علم العنونة ” ودراسات كثيرة أشهرها
كتاب عتبات النص ” الناقد الفرنسي جيرار جينت ..وكذلك
دراسات الكاتب الناقد “ليو هويك”
العنوان هنا ” تداعيات العشق المجنون ” عنوان مؤثر له وقع في النفس بكلماته الثلاث : تداعيات خبر لمبتدأ محذوف
جاءت جمعًا للدلالة على الكثرة ،وقد حُذف المبتدأ للاهتمام بالخبر ،العشق مضاف إليه ، المجنون نعت للعشق ..
فالعنوان هنا يوحي بحالة عشق يصل حد الجنون…وإذا اخذناه بظاهره فهو عنوان مؤثر يهز النفس ، ويحفز المتلقى لمعرفة حالة العشق المجنون هذه ،وتداعياتها ،
فإذا توغلنا في العنوان نجده باعث على تساؤلات تحوم حول كنه العشق ،وماهيته..وخاصة أن هذا العشق سبب في هذه التداعيات ..ووُصف بالمجنون .
وهل هو عشق أنثوي أم أنه عشق آخر والأنثى بطلة وهمية له .فالعنوان يجمع بين التأثير النفسي الوجداني ، قوة الألفاظ ودقتها .، الجانب البياني وروعة التصوير وأثره.
ومن هنا فقد أجاد الشاعر في في اختيار العنوان ، واستطاع
جذب المتلقي لسبر أغواره ، من خلال قراءة النص .
وخرج شاعرنا بذلك من المباشرةوالتصريح إلى الإيحاء والتلميح ، وعمق الرمزية والدلالة ،
ليعبر عن الواقع المرير ، بشاعرية وفنيات إبداعية ، ويصعد بنا إلى آفاق التخيل والإبداع ..
وفي رأيي” أن الإبداع تلميح لا تصريح ، يشترط فيه إكتمال العناصر وامتزاج الفنيات ؛ لتخرج لنا عملًا يتأثر به المتلقي ..يجمع بين العاطفة والفكر
———-؛؛؛؛؛؛———
***” من حيث الشكل والموسيقى “
تنتمي القصيدة من حيث الشكل للشعر العمودي ؛فهي تلتزم الوزن والقافية ،تتكون من ثلاثة وسبعين بيتًا “٧٣”
ويدل ذلك على طول النفس الشعر ،وعمق التجربة وتمكن الشاعر ، وقد حافظ الشاعر على تماسك القصيدة ،وقوتها
فشاعرنا القصيدة العمودية بسلاسة ، يستخدم المفردات التي تعكس حالته ، وتنطق بروح العصر وتعبر عنه وعن قضيته بسلاسة ووضوح . لذلك فهو يحافظ على الشكل العمودي ولكنه يجدد في الموضوع ، فالشعر لديه طبع ووجدان يتعايش داخله ويتعايش به ..فهو يعبر بإحساس وصدق شعوري ، ويستخدم الموسيقى الخارجية ” الوزن والقافية ” بما يلائم الحالة والرؤية ؛ ليكتمل الإبداع الشعري ، فالشعر لديه ليس وزنًا وقافية ..وإنما هو رُوح وحياة وإبداع.
ون
وقصيدتنا ” تداعيات العشق المجنون ” جاءت على بحر البسيط التام :-
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
وبحر البسيط من البحور المركبة .ويمتاز بالجزالة والتعبير عن الحالات المختلفة ، ويكون ضربه مخبونًا إلا في التصريع
فتكون العروض في حالة التصريع مطابقة للضرب ..
وجاء الضرب مقطوعًا فصارت فاعلن فعْلنْ
ونجد التصريع في البيت الأول ..
هجرت في واحة الأعراب غاداتي
وودعَتْ مهجتي ربع الحبيباتِ
ونجد ذلك التصريع في داخل القصيدة في قوله :-
نسيت في عشقها المجنون عاداتي
نسيت عزة أحلامي الأبيَّاتِ
نجد التناغم الموسيقى لبحر البسيط ، وكذلك القافية المطلقة وحرف رويها التاء مكسورة الحركة .. قبلها ألف التأسيس.
ومن صفات التاء الهمس ،الإصمات ،الشدة ،االانفتاح ،الاستفال
فالتاء تتناسب مع حالة العشق، وألف التأسيس توحي بعلو الرغبة ، والتمادي في العشق ،ثم يأتي الكسر في التاء ليوحي
بالانكسار والانهزامية ..تهاوي هذا العشق وتداعيه..
وإلحاق ياء النسب بحرف الروي للتخصيص ، وإظهار المعاناة الوجدانية ، وسيطرة حالة العشق وتفردها لديه ..
لها أيضًا تأثير موسيقي آخاذ ..تطرب له الأذن وتنجذب لها النفس.
فيقول :-
وزارني طيف” هند ” ما عنيت به
ولا أثارت سليمى بعض لوعاتي
قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
وهمت أنشد عند الغرب حاجاتي
الموسيقى لدى شاعرنا رقراقة ساحرة شجية، تتضافر مع سلاسة اللفظ ، وقوة المعنى ،فيحدث النص تماسًا مع الآخر
لأن النص يخترق الوجدان ويؤثر في المتلقى ..
ومن هنا فالموسيقى الخارجية ” الوزن والقافية ” ملائمة للجو النفسي ، والحالة والرؤية في النص .
فهي بمثابة موسيقى تصويرية للحالة ، تتناغم مع ديناميكية النص والدراما فيه .
**” الموسيقى الداخلية “
تقوم الموسيقى الداخلية بدور كبير في الشعر ؛فهى التي تحدث التشويق والإثارة والاستمتاع ،وتظهر من خلال حسن اختيار الكلمات وتنوع الجمل والأساليب ، وحسن التقسيم ،وتوازن الجمل والعبارات واستنطاق الجملة ،واختيار المفردات المناسبة المعبرة عن الحالة الوجدانية والشعورية .
واستخدام التقطيع الصوتي والجناس والترادف والتضاد
وغير ذلك من المحسنات البديعية ،وجميل المعاني
فاستخدم الشاعر الأساليب التي تعكس الحالة ،وتظهر الرؤية ،
تتجلى الموسيقى الداخلية في استخدم الشاعر الإطناب ، والجمل المفسرة ؛ليظهر الحالة ويبرهن عليها ويوكدها .
استخدام رائع للجمل .واستنطاق لها ..يبرز الحالة في إطار فني بديع
يعتمد على دقة التصوير ..وحسن اختيار الألفاظ. ..والوحدة العضوية .
فامتزجت الموسيقى الخارجيةمع الداخلية مماجعل النص كائنًا حيًا يشع بالحركة والتناغم الموسيقي..
يتماس مع الآخر ويؤثر فيه ،ويحقق المتعةوالسرور الداخلي .
ويظهر المقابلة في قوله:-
قلوت حسن عذارى العُرب قاطبة
وهمت أنشد عند الغرب حاجاتي
وكذلك في:-
وهبتها راضيًا كل انتصاراتي
وليس يعجبها غير انكساراتي
وهبتها القوة العظمى فقد رضيت
جيوش فتنتها عن نكس راياتي ،
مقابلة بين الهبة والحب ،وبين الاستغلال والسيطرة ،بين البناء والهدم فقد وهبها القوة وعوامل البناء لكنها تسبب في انكساراته وإضعافه ، نجد تكرار وهبتها ، وكذلك ياء النسب ” ياء المتكلم ” للتخصيص والتأكيد ..التقابل الذي يحمل القوة والتأثير..ويعكس الألم والصراع النفسي .
ونجد ذلك أيضًا في:-
وخطوت أنبش في أجداث مَن رحلوا
لأبتني عرشها من عظم أمواتي…
المقابلة هنا طبيعة ،تعكس تداعيات هذا العشق. وتخدم النص،وتؤجج الصراع النفسي والدراما ، وتجعل النص يشع حركة ..
ونجد الجناس في “العُرب، الغرب “،انتصاراتي ، انكساراتي “
ويَرد الشاعر في كثير من أبياته” العجز على الصدر “للتأكيد والاهتمام، مما يعطى جرسًا موسيقيًا مثل :-
أدعو عليها ونفسي لا توافقني
فلا تؤمن بل تأبي دُعاءاتي
وفي :-
عزيزة في زمان الطيش قد عبثت
بحكمتي في الهوى أخت العزيزاتِ
وفي :
قد توجت لنساء الأرص سيدة
لله در أبيها بنت ساداتي
وكذلك :-
صدقت فيها مراياها التي صنعت
وما قنعت بما أبدته مرآتي ..
ونجد حسن التقسيم ، وتوازن الجمل ، والإيقاع المنتظم الذي يعكس حالة الشجن ..ويحدث تناغمًا موسيقيًا ..
مثل :-
أكابد الشوق لا ينفك يغمرني
حتى طغى الشوق وانهارت إراداتي ..
وفي :-
في حسنها الفرد لا ألتى لها شبهًا
في عالم السحر أو دنيا الخيالات
وفي:
فلا ترق وتعطيني مفاتحها
ولا تحن فتأسو من جراحاتي
وفي :-
ما الصدق والعدل في قاموس فاتنتي
إلا الأماني وبراق الشعاراتِ
ويعتمد الشاعر على الجمل القصيرة المتوازنة التي تبدأ بالفعل غالبًا ؛ للدلالة على الحدث والحركة وعمق والتأثير .
فيعتمد تارة على الفعل الماضي للتثبوت والتحقيق ، وتارة أخرى على الفعل المضارع للاستمرار والتجديد واستحضار الصورة .
————–؛؛؛؛؛؛؛؛؛————–
** من حيث “المضمون والتجربة الشعرية
يوهمنا العنوان أن الشاعر يتحدث عن حالة عشق رومانسي ، ومكابدة هذا العشق ومعاناته فيه ، ..
لكن الشاعر اتخذ من “العشق المجنون ” رصدًا ، وترجمة ،ومعالجة للواقع ، فيتحدث عن الواقع العربي من من خلال ذاته ، فهو فرد يمثل التوجه العقلي الجمعي للوطن العربي ، والأنثي التي عشقها هي التوجه الغربي بكل زهوته
الخادعة ، ومحاولات السيطرة ، والهيمنة علي الشعوب العربية ،من خلال محو الثقافة ،والتراث ، وطمس الهوية العربية..فاتخذ شاعرنا حالة العشق الخاص ليحيلها إلى العام
ليعبر من خلال ذاته عن حالة عامة ، تعكس رؤيته للواقع .
وللمجتمع ..والبعد” الأنثروبولوجي “.
فالقصيدة عاطفية في لغتها ،إجتماعية في مضمونها .
فهو لم يهم بفتاة عربية ورمز لذلك “بسعاد ، هند ، سليمي” وغيرها من القصص التي خلدها الشعراء ، فصارت تراثًا عربيًا ، إنما عشق فتاة غربية ، قد سحر بفتنتها ،وولع بجمالها .
“
فيقول في ذلك :-
هجرت في واحة الأعراب عاداتي
وودعَتْ مهجتي ربع الحبيباتِ
بانت “سعاد” فما عرجت مبتسمًا
على الطلول ولا أوقفت ناقاتي
وزارني طيف” هند ” ما عنيت به
ولا أثارت “سليمى” بعض لوعاتي
قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
وهمت أنشد عند العرب حاجاتي
في حسنها الفرد لا ألتى لها شبهًا
في عالم السحر أو دنيا الخيالاتِ
ونجد حسن الاستهلال ،والتشويق الذي يثير المتلقي
يجذب انتباهه .. فهو يذكرنا بقصص العشق التي ترمز
لتراث ديني وحضاري وثقافي عريق ..
فامتزج هذا العشق الأنثوي ، بعشق التراث والهويه ..
ولكن الشاعر في تعبيره الخاص وقصده العام ،يعبر عن حالتنا فقد تركنا ذلك التراث العربي بكل مافيه وتوجهنا إلى الغرب نطلب حاجتنا .
فيقول :
” قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
ورحت أنشد عند الغرب حاجاتي ..”
ثم يعبر عن صفات تلك الأنثى الغربية التي هام بها ، وهي رمزية لتوجه الغرب ، وتلاعبهم بالعقل العربي ، وإحكام السيطرة عليه ، فيعبر عن ذلك بقوله :-
قد توجت لنساء الأرض سيدة
لله در أبيها بنت ساداتِ
غريسة العز في أرض الملوك نمت
وسقيها ترف في أرض دوقات
غريرة في زمان الطيش قد عبثت
بحكمتي في الهوى أخت الغريراتِ
صغيرة أهرمت قلبي ولا رحمت
يا ويح قلبي من لهو الصغيرات
نجد هنا دقة الكلمات ، فلكل كلمة دلالتها ، وإيحاؤها ، وقد
وصف الحضارة الغربية” أمريكا ‘ “بدقة ، فقد تسيدت وسيطرت ، وهي غريرة تلاعبت بالآخرين وأفقدتهم هويتهم وحكمتهم ،وهي حديثة “صغيرة “بالمقارنة بحضارتنا العريقة ” الكبيرة “
وجملة ” أهرمت قلبي ” موجعة لها دلالات ،وتحمل كل المأساة والشجن ..
ثم ينتقل بنا الشاعر إلي سيطرة هذه الأنثى ” الغرب ” عليه “على العرب ” وانخداعه بها ؛ظنًا منه أنها ملاذه ، ونوره ، ومعينه ..
فيقول :-
جعلتها قبلتي في كل حادثةٍ
وخلتها في ظلام الخطب مشكاتي
غرقت في بحرها اللجي وانكسرت
بموج فتنتها الطامي شراعاتي
مصعد في قيود العشق تثقلني
هذي السلاسل صاغتها صباباتي
لغة حية ،متفجرة تنقل المعاناة ، بعمق وسلاسة ،وتأثير .
هذا الذوبان في العشق جعله يقدم لها الكثير ،ويهبها كل شئ
قلبه ،روحه ،شعره ،وطنه …فيقول :-
وهبتها القلب لا ابغي به ثمنًا
إلا رضاها فهل ترضاه مولاتي
وهبتها الروح مالي بعدها أملٌ
جعلتها في الدنا مأمول غاياتي
وهبتها الشعر من قيثارتي غردًا
تشدو بفتنتها العصماء أبياتي
وهبتها الوطن الغالي وما نقشت
انامل المجد في أبهاء ساحاتي
الهبة ،هي العطاء الكثير بلا طلب ،ولا مقابل ..وهذا يدل على حبه الشديد ، وانخداعه بهذا العشق ..ويدل على ذلك تكرار الفعل وهبتها ، ولكن المأساة الكبرى..والمحور الدرامي في قوله ..
وهبتها الوطن الغالي وما نقشت
انامل المجد في أبهاء ساحاتي
نلحظ اللغة الراقية ، والتكرار الذي أفاد المعني ،ودقة اللفظ
والتصوير الرائع .
ويستمر الشاعر في عرض هذه التداعيات ، وتركه تقاليده وعاداته من أجلها فيقول :-
نسيت في عشقها المجنون عاداتي
نسيت عزة أحلامي الأبياتِ
رغم كل ذلك، فهو يرقب الوفاء بوعودها ،ولكن هيهات
فكم من وعود قطعها الدخلاء على أنفسهم ، واستباحوا بها الوطن .
واستفقنا بعد فوات الأوان على مكرهم وخداعهم فيقول :-
كم مِن وعود لها قد بت أرقبها
فيصبح الوعد وهمًا مِن سفاهاتي
ثم يصور المعاناة والألم وما وصل إليه الحال في كلمات رائعة ،وتصوير طريف فيقول :-
“ذهبت أودع ما أورثت من ذهبٍ
في جيب معطفها المقدود من ذاتي “
فقد أودع كل ما يملك من ثروة ،وهوية وحضارة ، ومجد ،وآثار ، ومقدرات الوطن وثروته تحت تصرف معشوقته
أو في جيب معطفها المصنوع من ذاته ..
في إشارة إلى أننا أودعنا الغرب كل ما نملك ، وسرنا في تقليدهم واتباعهم ، رغم أن حضارتهم أساسها الحضارة العربية ..فهي مقدودة منا “مأخوذة عنا “
وهنا انكشفت حقيقتها ، وأنها تخفي غير ما تبدي ..
فيقول :-
أمعنت في وجهها المصبوغ فانكشفت
ملامح الزيف مِن خلف الطلاءاتِ
ورغم ذلك وقد تكشفت للشاعر حقيقة محبوبته ، وتكشف للعرب حقيقة الغرب وخداعهم ، مازلنا نتبع هواهم ، وننتظرمنهم مالا يُنتظر ..
فيقول معبرًا عن ذلك :-
لأنني رغم هذا الزيف أعشقها
وأعشق التيه في تيه المفازاتِ
لكنني لم أدرْ عن وجهها بصري
ورحت أرقب فيها شطري الآتي .
———–؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛————-
**الإيحاء وتجليات التصوير” فنيات الإبداع “
نحن أمام قصيدة عمودية مطولة ، تتسم بالوحدة العضوية وبقوة التعبير ، والإيحاء بعيدة عن المباشرة ، والخطاب ..
تجمع بين الفكر والعاطفة، استطاع الشاعر أن يلبثها ثوب الجمال ، ويزينها بالإثارة والتشويق ، والحركة والدراما فلا يمل المتلقي ، ولا يفتر القارئ..بل يتماس معها وتدعوه للتأمل .
لم يتوقف شاعرنا عند الموسيقى الخارجية والداخلية وهذا
التناغم الرائع والسلاسة الإيقاعية ، بل تجاوز ذلك إلي رشاقة العرض وحداثة المضمون ، لتصبح القصيدة كائنًا حيًا تشع
شاعرية وفنًا وحياة.
وقد استخدم الشاعر الأساليب الخبرية للتقرير والتأكيد
وولعرض الحالة والرؤية ..
والإنشائية لإثارة الذهن وجذب المتلقي وما يناسبها من أغرضض بلاغية .
مثل الاستفهام في
مَن لي بدفع صبابات أعالجها
حتى فنيت وعشق فوق طاقاتي ؟!
والنداء في يامن سقتنى الهوى / ياويح قلبي .
الشعر رهين الصورة فإن علا الخيال مظهرًا الحالة متسقًا مع المعني يعل النص ويظل له في النفس صدى ،
وبالنظر في قصيدتنا ” تداعيات العشق المجنون ” نجد الصورة الطريفة الحية ، التي تعكس الحالة والرؤية ..
وتظهر العاطفة والفكر ، فانتقلت الصورة من حد السماع
إلى الرؤية البصرية ، والبعد الثالث فاتسع المشهد وصرنا
نتعايش داخله .
ونجد الصورة بداية من العنوان مرورًا بكل بيت من أبيات
القصيدة .ونذكر أمثلة على ذلك
هجرت في واحة الأعراب عاداتي
وودعَتْ مهجتي ربع الحبيباتِ
بانت “سعاد” فما عرجت مبتسمًا /
وزارني طيف” هند ” ما عنيت به/وسقيها ترف في أرض دوقات/غريرة في زمان الطيش قد عبثت /
صغيرة أهرمت قلبي ولا رحمت /وخلتها في ظلام الخطب مشكاتي/هذي السلاسل صاغتها صباباتي /
وهبتها الوطن الغالي وما نقشت
انامل المجد في أبهاء ساحاتي /
ذهبت أودع ما أورثت من ذهبٍ
في جيب معطفها المقدود من ذاتي/
ويستمر هذا التصوير الرائع الذي يتناسب الحالة النفسية
والشعورية حتي نهاية القصيدة
“لأنني رغم هذا الزيف أعشقها
وأعشق التيه في تيه المفازاتِ
لكنني لم أدرْ عن وجهها بصري
ورحت أرقب فيها شطري الآتي “
ونجد امتزاج الصورة بالإيحاء والرمز في قوله :-
في بيتها الأبيض المعمور قد حشدت
ملائك الموت ترنو لاحضاراتي
البيض الأبيض “رمز لأمريكا”وقد حشدت ملائك الموت في إشارة إلى كل ما تحيكه من مؤامرات وفتن وحروب من أجل السيطرة والهيمنة .
ونجد ذلك في :-
طفت أنبش في أجداث من رحلوا
لأبتني عرشها من عظم أمواتي
كلمات مؤثرة ؛ عميقة الدلالة والإيحاء في صورة حية رائعة . متحركة، وإيقاع متهادٍ….فقد بنت هذه الدولة الحديثة
حضارتها بالسفك والدمار ، وتركنا أصولنا وثقافتنا ،وألقينا بها بعيدًا ،
———–؛؛؛؛؛؛؛؛———-؛
** المؤثرات داخل النص
استخدم الشاعر المؤثرات التي تجذب المتلقي ، وتتصاعد بالحدث الدرامي ،وتمتزج بالصورة والخيال ..فتكون حالة من التناغم والتأثير على المتلقي تعلو بالإبداع وتحقق الإمتاع .
فنجد المؤثرات الحركية التي تسري في النص من بدايته لنهايته ، واكسبت النص الروح الحية ، فجعلتنا نستمتع بالنص ولا نشعر بطوله ..
وقد استخدم الأفعال الدالة على الحدث والحركة ، وبدأ بالماضي مثل هجرت ،ودعت ،بانت ،أوقفت ،زارني ،قلوت ،همت .،وغيرها
وهذه الأفعال تدل على الثبوت والتحقيق ،
واستخدم المصارع للدلالة على التجدد والاستمرار في العشق
والتيه والسير في ركاب الغرب ..
مثل أعشقها ..أودع ،لم أدرْ، أرقب .
ونجد المؤثرات الضوئية مثل :خلتها في ظلام الخطب مشكاتي ..
ونجد مؤثرات اللون ظلام ، وجهها المصبوغ ،الطلاءات
——؛؛؛؛؛؛؛——–
** الأنماط الأدبية في النص
استخدم الشاعر الأنماط الأدبية التي تخدم النص وتظهر عاطفته وفكره :-
ومن ذلك
١- النمط الوصفي ويظهر ذلك في الإكثار من استخدام الأساليب الخبرية ، والنعت والحال، واستخدام أساليب
النفي ،والتعجب ، واستخدام أفعال الحركة
بانت “سعاد” فما عرجت مبتسمًا
على الطلول ولا أوقفت ناقاتي
وزارني طيف” هند ” ما عنيت به
ولا أثارت “سليمى” بعض لوعاتي
قلوت حسن عذارى العرب قاطبة
٢-النمط الحواري ويظهر في استخدام الحوار المباشر ،وغير المباشر ، وفي استخدام الضمائر وتنوعها.
واستخدام الأفعال.
كم مِن وعود لها قد بت أرقبها
فيصبح الوعد وهمًا مِن سفاهاتي
وقوله :-
تقول : زيك هذا ليس يعجبني
ما أبعد العصر عن لبس العباءاتِ
وفي قوله :-
تقول : حريتي تاج بمملكتي
فاحذر حماها بل احذر سوط لعناتي
٣- النمط الحجاجي :- ويظهر في استخدام التعليل والبراهين
ويظهر ذلك في قوله :-
في بيتها الأبيض المعمور قد حشدت
ملائك الموت ترنو لاحتضاراتِ
وقوله:-
لأنني رغم هذا الزيف أعشقها
وأعشق التيه في تيه المفازاتِ
وقوله:-
وطفت أنبش في أجداث من رحلوا
لأبتني عرشها من عظم أمواتي
ولتعدد الأنماط الأدبية أثره في جذب المتلقي ، والاشتغال الدرامي ، والتشكيل الفني والإيقاعي .
———-؛؛؛؛؛؛؛؛————-
**التجديد في النص الشعري :-
القصيدة تنتمي للشعر العمودي ..لكنها اتخذت المضمون الحداثي ، فقد حققت الموازنة بين الشكل الكلاسيكي وحداثة المضمون والعرض .ويظهر ذلك من خلال :-
١- العمق الفكري والشعوري ،توافر بالذاتية والوجدان ،والوحدة العضوية داخل النص.
فالشاعر يتحدث عن الواقع المرير ،ولكنه بشاعريته ،وبحالة العشق هذه ،خرج عن الواقعية إلى عوالم السحر والخيال والجمال فحقق المتعة والإبداع ، وكان التأثير أقوى والمعنى
أشمل . ونقل رؤيته ، والإطار الأنثروبولوجي ..
٢- استخدام اللغة الحية والمفردات ذات الدلالة والرمزية والعمق والتلميح.
والاعتماد على الجمل المتوازنة ذات الإيقاع المتناغم .
٣-تنوع الأسلوب ومشاركة المتلقي وجدانيًا وذهنيًا عن طريق التعبير عن العام من خلال الخاص .
٤-الصور تنبع من الذات ،والطبيعة ..انتقلت من الحسي للمرئي يتداخل معها الرمز، وتعتمد على اللقطات الموحية ،والإيحاء والتضاد ..
٥- التشكيل الموسيقي حيث جاءت الموسيقى بشقيها الخارجي والداخلي متجاوبة مع الحالة الوجدانية..تعكسها وتسير في تناغم يحقق النشوة والاستمتاع.
——؛؛؛؛؛؛؛؛؛———
تبقى من وجهة نظري :-
في قوله :-
“في بيتها الأبيض المعمور قد حشدت
ملائك الموت ترنو لاحتضاراتي “
بيت رائع؛ تضافر الرمز مع الصور ،
لكن” قد حُشدت ملائك الموت” لم يتسق مع المعني المراد بأن نشبه حشودهم السياسية والعسكرية” بملائك الموت ؛لقدسية الملائكة وطهارتهم من جانب ؛ولأن ملائكة الموت أرحم من هؤلاء البشر القساة .
———–؛؛؛؛؛؛؛؛؛———–
** قصيدة رائعة ؛ تحوي الجمال والفنيات والموسيقى العذبة المتناغمة ..والحركة والإيقاع الملائم للجو النفسي….وهو كذلك إبداع فريد من حيث المضمون ..فهو يتماس مع الآخر يعبر عن مشاعر كل مبدع حقيقي يرفع راية الإبداع والتنوير يسعى للرقي الروحي والفكري .
عبر الشاعر عن فكره وعاطفته وتجربته الشعرية بمهارة وسلاسة..وتراكيب حية ..وترصيع للجمل ،وبصور طريفة رائعة .
فنجد الحركة والحيوية والقوة ..والروح الحرة التي تسري في النص…لتعبر عن الخلود والبقاء …
قصيدة تحقق الإبداع والإمتاع ..
تحياتي أسامة نـور
التعليقات مغلقة.